رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خسائر إسرائيل ومكاسب حماس


تحوّل جزء كبير من غزة إلى أنقاض، تم طرد سكانها من منازلهم بسبب القصف الإسرائيلى الغاشم، وارتفع عدد الشهداء أكثر من أى وقت مضى.. على الأرض، اختفت حماس، التى تحكم غزة منذ ستة عشر عامًا، إلى حد كبير، باستثناء عندما يظهر مقاتلوها لمهاجمة الدبابات الإسرائيلية أو إطلاق الصواريخ على إسرائيل.. لكن الحركة لا تزال تجنى فوائد هجومها المفاجئ على إسرائيل فى السابع من أكتوبر.. وتعتبر الفصيل الفلسطينى الوحيد الذى يحصل على تنازلات من إسرائيل منذ سنوات عديدة.. لقد ألقت بوجع دموى على خطط إسرائيل لتحسين العلاقات مع جيرانها العرب، وأجبرت القضية الفلسطينية على العودة إلى جداول أعمال قادة العالم.. وبعد أكثر من شهرين من الحرب، وعلى الرغم من تعهدات المسئولين الإسرائيليين بتدمير حماس، لم تقتل إسرائيل بعد كبار قادتها، أو تحرر الرهائن الـ137 المتبقين الذين تحتجزهم حماس، أو تقدم أدلة مقنعة على أنها تستطيع تحقيق هدفها المتمثل فى القضاء على حماس، دون تكلفة بشرية فلكية.. وفى حسابات حماس الساخرة، فإن سقف أهداف إسرائيل يعد ميزة إضافية.. يمكنها أن تعلن النصر بمجرد البقاء على قيد الحياة للقتال فى يوم آخر.. «ستكون هناك دائمًا ميزة ستتمتع بها قوة غير تقليدية، خصوصًا إذا كانت قوية مثل حماس.. ستكون إسرائيل عالقة فى هذه الحرب التى لا يمكن الفوز بها، ما يتسبب فى موت ودمار هائلين»، هكذا أكد أحمد فؤاد الخطيب، محلل سياسة الشرق الأوسط الذى نشأ فى غزة.
ويبقى السؤال مفتوحًا: ما الذى يمكن أن تحققه إسرائيل بالضبط؟
مجرد شن الحرب يمكن أن يضر باقتصاد إسرائيل ومكانتها الدولية بمرور الوقت، بينما يشجع جيلًا جديدًا من الفلسطينيين على كراهية إسرائيل.. وكلها فوائد لحماس.
كان الهجوم المفاجئ الذى قادته حماس فى السابع من أكتوبر، هو اليوم الأكثر دموية فى تاريخ إسرائيل، حيث قتل حوالى 1200 شخص، معظمهم من المدنيين، وأُسِر 240 بين مدنيين وعسكريين.. وردت إسرائيل بشراسة عسكرية لم تشهدها إسرائيل منذ عقود، حيث أسقطت آلاف القنابل على غزة، وشنت غزوًا بريًا يهدف إلى تدمير الهياكل العسكرية والحكومية لحماس، ومعها البنية التحتية ومنازل القطاع.. كانت الحرب كارثية على سكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة. وقد فر حوالى 85% من منازلهم، ويواجهون الآن تحديًا متزايدًا للعثور على الغذاء والماء والمأوى والرعاية الطبية.. واستشهد أكثر من ثمانية عشر ألف شخص، حتى الآن، أكثر من ثلثيهم من النساء والأطفال، وفقًا للسلطات الصحية فى القطاع، التى لم تذكر عدد القتلى من المقاتلين.. وقد أثرت الحرب سلبًا على حماس أيضًا.. وقد تخلت الحركة إلى حد كبير عن الحكم فى غزة، على الرغم من أن بقايا قوات الشرطة التابعة لها لا تزال تعمل فى الجنوب، ويكافح المسعفون فى المستشفيات التى تشرف عليها وزارة الصحة لعلاج فيضانات الجرحى.. وإلا فإنها تترك بشكل متزايد سكان القطاع يتدبرون أمورهم بأنفسهم.
لقد نسفت إسرائيل العديد من الأنفاق التى بنتها حماس على مر السنين، للتنقل سرًا فى جميع أنحاء القطاع واحتجاز الأسرى وتصنيع الأسلحة والتخطيط للهجمات.. وتشير التقديرات إلى أن حماس لديها خمسة وثلاثين ألف مقاتل، ويقدر المسئولون الإسرائيليون أن بضعة آلاف منهم قُتِلوا فى غزة، بالإضافة إلى حوالى ألف داخل إسرائيل فى السابع من أكتوبر.. وأعلنت كل من إسرائيل وحماس عن أسماء شخصيات عسكرية من حماس قُتلت فى الحرب.. ونشرت إسرائيل مؤخرًا صورة قالت إنها تظهر أحد عشر من قادة حماس يجتمعون فى مخبأ، تم تمييز خمسة منهم بدوائر حمراء كتب عليها «تمت تصفيتهم».. لكن مقاتلين من حماس وفصائل مسلحة أخرى يواصلون مهاجمة القوات الإسرائيلية داخل غزة، وقتلوا العديد من الجنود منذ بدء الغزو البرى الإسرائيلى، بمن فيهم نجل رئيس الأركان الإسرائيلى السابق.. ولم تعثر إسرائيل بعد على كبار قادة حماس فى غزة وتقتلهم، بمن فيهم يحيى السنوار، أعلى مسئول فى حماس فى القطاع، ومحمد ضيف، الذى يقود الجناح المسلح للحركة.. وتعتبر إسرائيل الرجلين مهندسى هجوم السابع من أكتوبر والقتال فى غزة منذ ذلك الحين.
لم يظهر السنوار علنًا منذ بدء الحرب.. لكن إحدى الرهائن، يوشيفيد ليفشيتز، وهى ناشطة سلام تبلغ من العمر ثمانية وخمسين عامًا، قالت لصحيفة إسرائيلية بعد إطلاق سراحها الشهر الماضى، إن السنوار جاء إلى النفق الذى كانت محتجزة فيه. وإنها سألته عما إذا كان يشعر بالخجل من فعل مثل هذا الشىء للأشخاص الذين دعموا السلام؟، لكن السنوار لم يرد.. ويستمر التنسيق بين أعضاء حماس داخل غزة وخارجها، ما سمح للقادة المقيمين فى قطر بالتفاوض على تبادل الرهائن مقابل الأسرى، الذى نفذته حماس فى غزة بعد ذلك.. وتنشر الفرق الإعلامية التابعة للجماعة تحديثات إخبارية وبيانات، من قادة وأشرطة فيديو للهجمات والمدنيين الذين قتلوا فى الغارات الإسرائيلية.. وينقل مسئولو حماس فى تركيا ولبنان وجهات نظرهم إلى الصحفيين والدبلوماسيين، ويتحدث قادة الحركة فى قطر بانتظام مع وسطاء من قطر ومصر، حول وقف إطلاق النار المحتمل وتبادل الأسرى.
تمثل معركة حماس الحالية «نقلة نوعية» فى الصراع ضد إسرائيل، وأن حماس والفلسطينيين قبلوا التضحيات اللازمة لإبقاء القضية الفلسطينية حية.. كان على الشعب الفلسطينى ومقاومته اتخاذ قرار استراتيجى مكلف، لأن تكاليف تصفية القضية الفلسطينية وتبديد الحقوق الفلسطينية ستكون أكبر بكثير.. وبطبيعة الحال، لم يكن للمدنيين فى غزة أى رأى فى قرار حماس بمهاجمة إسرائيل، وقد اشتكى البعض من أنهم يدفعون الثمن، لكن قياس حجم مثل هذه الانتقادات أمر صعب، وهو يتضاءل بالمقارنة مع الغضب الفلسطينى من الطريقة التى تقاتل بها إسرائيل، «هناك الكثير من الرعب حول الرد الإسرائيلى، ولكن على الرغم من ذلك، حماس هى الآن بلا شك زعيم القومية الفلسطينية».. ومن خلال تنفيذ مثل هذا الهجوم الدراماتيكى وإطلاق سراح 240 فلسطينيًا من السجون الإسرائيلية مقابل 105 أشخاص اختطفوا فى أكتوبر، طغت حماس على السلطة الفلسطينية المعترف بها دوليًا.
لقد دعم الرئيس بايدن ومسئولون أمريكيون آخرون إسرائيل بالكامل طوال الحرب.. لكن فى الأسابيع الأخيرة قرنوا هذا الدعم بقلق من أن الدمار الهائل وعدد القتلى المرتفع يمكن أن يقوِّض أهداف إسرائيل الأوسع.. كما جددوا الدعوات إلى حل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين، باعتباره السبيل الوحيد لسلام طويل الأمد، وقد أشار مراقبون آخرون إلى أن القادة فى إسرائيل والغرب كانوا متسرعين جدًا فى افتراض أن إسرائيل قادرة بالفعل على تدمير حماس.. وبعد شهر واحد من الحرب نشر جون ألترمان، نائب الرئيس الأول فى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية فى واشنطن، تحليلًا بعنوان «إسرائيل يمكن أن تخسر»، وقال إنه لم يجادل بأن حماس ستقلب الطاولة وتدمر إسرائيل، بل إن الحرب يمكن أن تخدم أهداف حماس على المدى الطويل، من خلال سحب الدعم من السلطة الفلسطينية، وهذا بدوره سيزيد من عزلة إسرائيل عن دول العالمين العربى والنامى، ويعقد علاقاتها مع الولايات المتحدة وأوروبا.
ويرى ألترمان أن «هذه النتيجة لا تزال تشكل خطرًا»، بينما ترى حماس، أن «هذه هى الخطوة الأولى الضرورية، لعكس القوة التى تحصل عليها إسرائيل من الاندماج فى المنطقة والعالم».. وهناك أيضًا أمثلة تاريخية ضئيلة، على نجاح إسرائيل فى استخدام القوة الساحقة لتدمير أعدائها.. فى عام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان لتدمير منظمة التحرير الفلسطينية، التى اعتبرتها منظمة إرهابية. كانت الحرب طويلة ومميتة، وفشلت فى تدمير منظمة التحرير، بينما كانت تمهد الطريق لصعود حزب الله، ثم وقعت إسرائيل اتفاقات سلام مع منظمة التحرير عام 1993.. خاضت إسرائيل مرة أخرى حربًا فى لبنان عام 2006 ضد حزب الله، الذى عاد أقوى فى السنوات التى تلت ذلك.. كما خاضت إسرائيل ثلاث حروب كبرى ضد حماس فى غزة، منذ عام 2008، لم يمنع أى منها الحركة من إعادة التسلح والاستعداد لهجوم السابع من أكتوبر.
■■ وبعد..
فقد قتلت إسرائيل، على مدى سنوات الصراع، سلسلة من قادة حماس، الأمر الذى عكس انطباعًا لدى البعض بأن اغتيال كل هؤلاء القادة الكبار معناه أن حماس كانت منظمة ضعيفة.. لكن ثبت خطأ هذا البعض، فى السنوات التى تلت ذلك، بعد أن تبين لهم أن حماس تعتبر قادتها قابلين للاستبدال، وترى أن السكان الساخطين فى غزة وسيلة لضمان المجندين فى المستقبل، «لم نكن نظن أبدًا أن حماس سترتفع إلى هذا المستوى من القوة، التى تعكس مدى قدرتهم على الصمود، وقدرتهم على التكيف، وأنهم يجدون، بطريقة أو بأخرى، وسيلة لإعادة التشكيل، حتى خارج غزة».
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.