رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عباس العقاد والصهيونية العالمية

عام ١٩٥٦ أصدر عباس العقاد كتابه «الصهيونية العالمية»، ولم يكن قد مر على النكبة العربية سوى ثمانية أعوام، ورغم انقضاء نحو سبعين عامًا على صدور كتاب العقاد، إلا أنه يبدو كأنما قد صدر الآن، باشتباكه الفكرى العميق مع جذور المسألة، وفيه يوجز العقاد رؤيته لإسرائيل بعبارة حاسمة حين يقول: «إن إسرائيل هى القضاء المبرم على إسرائيل»! 

ويفسّر «العقاد» ذلك على امتداد فصول الكتاب قائلًا: «كان اليهود يشفقون من عزلتهم بين الأمم، فلما أقامت إسرائيل وطنًا قوميًا فى فلسطين، لم يكن لنجاحها غير معنى واحد هو العزلة الدائمة»! وهذا أحد أشكال التناقض القوى فى نشأة ووجود تلك الدولة، التى هروبًا من العزلة رسخت العزلة. 

ويوضح ذلك بقوله: «إن الصهيونية مسئولة عن كل فاصل تقيمه بينها وبين أمم العالم؛ لأنها من قديم الزمن تقسم العالم إلى قسمين متقابلين: قسم إسرائيل أصحاب الحظوة عند الله لغير سبب إلا أنهم أبناء إسرائيل، وقسم آخر يسمونه قسم الأمم، ويشملون به جميع الناس من جميع الأقوام والأجناس». ويعرض لأسباب تلك العزلة من الناحية الاقتصادية فى الفصل ١٨ قائلًا: «إن إسرائيل قد تعيش سنوات من المعونة الخارجية التى يقدمها الاستعمار، لكنها لن تعيش إلا إذا قامت بالصناعة، والصناعة تحتاج إلى خامات وأسواق لا تجدها إسرائيل فى ظل المقاطعة العربية». وينبه بثقافة الكاتب الكبير إلى أنه «فى وسع الدول الكبرى أن تصنع كثيرًا لإسرائيل، إلا شيئًا واحدًا لا تستطيعه.. فليس فى وسعها أن تقيمها على قدميها وأن تغنيها عن معونتها، وهى لا تفتأ تستعين بها على نفقات الدفاع، ونفقات الإيواء والتعمير، وسداد الديون».

لذلك يوجز «العقاد» رؤيته بقوله: «إن إسرائيل هى القضاء المبرم على إسرائيل» ويعنى بذلك أنها تحمل فى صميم وجودها كل عوامل الزوال السياسية والاقتصادية. ويلقى «العقاد» فى الفصل ١٤ الضوء على القضية من زاوية أخرى قائلًا: «إن كل جهود الصهيونية العالمية تنحصر الآن فى غاية واحدة.. الصلح مع العرب واستبقاء نفوذها فى البلاد الأمريكية.. فالواقع أن إسرائيل هالكة لا محالة إذا استمرت مقاطعة العرب لها سياسيًا واقتصاديًا.. ولهذا يتعمدون خلق المشكلات، عسى أن يؤدى البحث فى المشكلات إلى البحث فى الصلح، وعسى أن يؤدى البحث فى الصلح إلى فك الحصار السياسى والاقتصادى عن الدويلة القائمة على غير أساس». 

ويفند الكاتب الكبير أكذوبة «الثقافة اليهودية» قائلًا: «نعود إلى دعوى النبوغ فى العلوم والفنون، فلا نرى أن الصهيونية أنشأت لها ثقافة مستقلة قط فى زمن من الأزمان، وإنما يستفيد الصهيونى الألمانى من ثقافة ألمانيا، ويستفيد الصهيونى الإنجليزى من ثقافة إنجلترا، ويستفيد الصهيونى الأمريكى من ثقافة أمريكا»، أى أن نبوغ البعض منهم فى بلد ما يرجع إلى ثقافة ذلك البلد، وليس إلى ديانة اليهودى، ويضيف «العقاد»: «وقد كانت فى الإسكندرية مكتبة جمعت مئات الألوف من المجلدات فى الطب والفلك والجغرافيا والحكمة والرياضة وسائر العلوم، فكم كتابًا كانت فيها من تآليف الصهيونيين الأقدمين؟ لا كتاب! ولا أثر! ولا ثمرة!». 

لا ثقافة ولا اقتصاد ولا تاريخ لتلك الدولة التى بدعوى فك العزلة أحكمت العزلة، وبدعوى أن لها تاريخًا سطت على كل تاريخ وقع بين يديها، ويظل الكتاب يلمع بحقائق جديرة بالتأمل فى خضم العدوان على غزة الآن، وتبدو كلماته بعد سبعين عامًا كأنها كُتبت الآن.