رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تدق ناقوس الخطر من جديد

وسط عالم بدأت شعوبه- أخيرًا- فى إدراك بشاعة الجُرم الإسرائيلى ضد الشعب الأعزل فى قطاع غزة، تلك الشعوب التى صحت فجأة على أكذوبة حقوق الإنسان والحياة الكريمة لأصحاب الأرض فى أوطانها، الشعارات التى تتشدق بها حكوماتهم، وتصدع بها الرءوس، بل وتُحاكم بها غيرها من الدول، كأنهم المفوضون فى الأرض، وما هم إلا ثلة من الكذابين الذين يكيلون بمكيالين.. وسط هذه الصحوة التى تنتاب العالم، جاء انعقاد القمة العريبة- الإسلامية المشتركة غير العادية يوم السبت الماضى، بحضور رؤساء وملوك وممثلى أكثر من إحدى وخمسين دولة، عربية وإسلامية وإفريقية.. يتحدثون بألسنة مختلفة، لكنهم اتفقوا على أن ما يحدث فى قطاع غزة، من قتل وتشريد ومحاولات تهجير، مُخالف لكل الأعراف والمواثيق والقوانين الإنسانية الدولية، وأن ما يحدث فى هذه الأراضى المحتلة يجب أن يتوقف فورًا، انتصارًا للقيم الإنسانية وحق الشعوب فى العيش فوق أراضيها بأمن وسلام.. وأن أسلحة الدمار لا بد أن تكون بمنأى عن الشعوب الضعيفة، التى لا حول لها ولا قوة، ولا ذنب لها فيما يحدث، سوى أنها متمسكة بأرضها، التي يريد المحتل أن يغتصب المزيد منها، حتى ولو مارس تطهيرًا عرقيًا غير مسبوق، أو ذهب لإحداث نكبة أخرى فى فلسطين، مثل التى حدثت عام 1948.
وفى كلمة قصيرة مُحدِدة، واضحة قاطعة، حاسمة حازمة، جاءت كلمة مصر على لسان الرئيس عبدالفتاح السيسي، خلال القمة.. فمصر التى أدانت، منذ البداية، استهداف وقتل وترويع جميع المدنيين من الجانبين، وجميع الأعمال المنافية للقانون الدولى، والقانون الدولى الإنسانى، تؤكد من جديد هذه الإدانة الواضحة، مع التشديد فى الوقت ذاته على أن سياسات العقاب الجماعى لأهالى غزة، من قتل وحصار وتهجير قسرى، غير مقبولة ولا يمكن تبريرها بالدفاع عن النفس، ولا بأية دعاوى أخرى.. وينبغى وقفها على الفور.. وكما يمر الوقت ثقيلًا على فلسطين وأهلها، يمر علينا، وعلى جميع الشعوب ذات الضمائر الحرة، مؤلمًا وحزينًا، يكشف سوءات المعايير المزدوجة، واختلال المنطق السليم، وتهافت الادعاءات الإنسانية، التى- مع الأسف- تسقط سقوطًا مدويًا، في هذا الامتحان الكاشف.
إذًا، واجه الرئيس السيسى العالم بحقيقته القبيحة، التى تُخالف المنطق، وتُعرى ادعاءاته الكاذبة بالإنسانية وحقوق الإنسان، وقد كشفت الأحداث الأخيرة فى غزة أن معايير العالم الغربى مُزدوجة، فما يرفضه فى أوكرانيا يقبله فى غزة، وما يستهجنه من روسيا يُشجع إسرائيل على ارتكابه.. مع أن الحالين متشابهان، وفى كلا الأمرين هناك أرض مُحتلة، وهناك دولة احتلال.. وهنا فلا سقطة تُنتظَر للعالم الذى يدّعى التحضر، بعد سقطته الكبرى فى موقفه العارى تجاه ما يحدث من عدوان كالجحيم على غزة.
ولأن الرئيس يعلم أن العالم يترقب هذه القمة، وما يُقال فيها.. وبالإضافة إلى ما سبق أن أكده وأشار إليه، مع كل الذين زاروا مصر منذ اندلاع الأزمة، إلا أنه عاد مرة أخرى ليؤكد ثانية للقوى الدولية الفاعلة وللمجتمع الدولى بأسره، "أن مصر والعرب سعوا فى مسار السلام لعقود وسنوات، وقدموا المبادرات الشجاعة للسلام.. والآن تأتى مسئوليتكم الكبرى في الضغط الفعّال لوقف نزيف الدماء الفلسطينية فورًا، ثم معالجة جذور الصراع، وإعطاء الحق لأصحابه، كسبيل وحيد، لتحقيق الأمن لجميع شعوب المنطقة، التى آن لها أن تحيا فى سلام وأمان.. دون خوف أو ترويع، ودون أطفال تُقتل أو تُيتم.. ودون أجيال جديدة تُولد، فلا تجد حولها إلا الكراهية والعداء.. فليتحد العالم كله، حكومات وشعوبًا، لإنفاذ الحل العادل للقضية الفلسطينية، وإنهاء الاحتلال، بما يليق بإنسانيتنا، ويتسق مع ما ننادى به من قيم العدل والحرية واحترام الحقوق.. جميع الحقوق وليس بعضها".
وفي حضرة العلن، وعلى رءوس الأشهاد، بعدما شهدت أروقة اللقاءات التي انعقدت في القاهرة، مع رؤساء أوروبيين ومسئولين أمريكيين وغيرهم، وحتى الاتصالات الهاتفية مع الرئيس الأمريكي نفسه، تلك اللقاءات والاتصالات التي عبّر فيها الرئيس السيسى عن موقف مصر الواضح والصريح مما يحدث فى غزة، من مجازر ودمار وترويع للآمنين، بما فاق كل تصور بشرى.. حرص الرئيس فى كلمته بقمة الرياض على نفس ما تؤمن به مصر، وتراه فى صالح الجميع، دون استثناء.. وحمَّل المجتمع الدولى، لاسيما مجلس الأمن، مسئولية مباشرة للعمل الجاد والحازم، لتحقيق الوقف الفوري والمُستدام لإطلاق النار في القطاع، بلا قيد أو شرط.. وقف كل الممارسات التي تستهدف التهجير القسري للفلسطينيين إلى أى مكان، داخل أو خارج أرضهم.. اضطلاع المجتمع الدولي بمسئوليته، لضمان أمن المدنيين الأبرياء من الشعب الفلسطينى.. ضمان النفاذ الآمن والسريع، والمُستدام، للمساعدات الإنسانية، وتحمل إسرائيل مسئوليتها الدولية، باعتبارها القوة القائمة بالاحتلال.. التوصل إلى صيغة لتسوية الصراع، بناء على حل الدولتين، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.. بل إن الرئيس ذهب إلى آخر الطريق، وطالب ألا تمر الجريمة الإسرائيلية النكراء في حق الشعب الفلسطيني الأعزل، دون عقاب، ولذلك، طالب بإجراء تحقيق دولى فى كل ما تم ارتكابه من انتهاكات ضد القانون الدولى.. فإذا كانت إسرائيل تمارس الشطط الجنونى فى تدمير كل ما هو كائن على أرض القطاع، وتقتل الأبرياء دون وازع من ضمير ولا رادع من إنسانية، وخصوصًا الأطفال والنساء والعجائز، وتدفع الشعب الأعزل نحو التهجير القصرى من الشمال باتجاه جنوب القطاع، بدعوى أن ذلك حتى لا تجرؤ حماس وغيرها على تكرار ما حدث يوم السابع من أكتوبر الماضى.. فحرى بالعالم الحر- إن كان كذلك- أن يُحاسب إسرائيل على القتل والتدمير، حتى لا تُقدم على مثل ذلك، إن كان العالم الغربى ما زال لديه ضمير الإنسان الحى.
إن مصر تقرأ الواقع وترى من خلاله المستقبل، فتُحذر من مغبة الوقوع فى شرور أفعال هذا الحاضر درءًا لما هو قادم، "لقد حذرت مصر، مرارًا وتكرارًا، من مغبة السياسات الأحادية، كما تحذر الآن من أن التخاذل عن وقف الحرب في غزة، ينذر بتوسع المواجهات العسكرية فى المنطقة.. وأنه مهما كانت محاولات ضبط النفس، فإن طول أمد الاعتداءات، وقسوتها غير المسبوقة، كفيلان بتغيير المعادلة وحساباتها.. بين ليلة وضحاها".. هنا، يُحذر الرئيس السيسى من مآلات تعويل العالم على صبر الأمة العربية تجاه التجاوزات الإسرائيلية فى قطاع غزة، ويؤكد للعالم الذى لا يريد اتساع دائرة الصراع في المنطقة، وربما في الإقليم، أن للصبر حدودًا، وأن قدرة الشعوب على تحمل قسوة ما يحدث للفلسطينيين لها أمد محدود، وساعة تنفجر هذه الشعوب، فلن يقف دون غضبتها حائل.
هذا صوت الحق العاقل يخرج من مصر، تُحذر به كل من أغرته أسباب القوة العسكرية التى تمتلكها إسرائيل، وتمدها الولايات المتحدة وأوروبا بالمزيد منها، فى مواجهة شعب أعزل.. لكن، إذا فاض الكيل بالشعوب التى تلوك صبرها علقمًا في الحلوق، فليس للمعتدى وقتها سماء تحميه ولا أرض، لأن غضبة الشعوب عمياء، إذا فاضت، فإنها لن تُبقى ولن تذر.. هذا الصوت المصرى الحكيم يؤكد أن الصبر على مكاره إسرائيل فى حق قطاع غزة غير ناجم عن ضعف بأسباب القوة العربية، ولا عن هوان، إنما هو درء لكارثة من الممكن أن تحل بالعالم، ربما وصلت إلى الغرب فى عقر داره، وهو الذى يظن، أنه بأمن عن ما يحدث.. اقرأوا التاريخ، وانظروا فيما كان قبل سنوات.. فالغبى من لم يستفد من دروس الماضى.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.