رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مستجدات الوضع الميدانى فى السودان!

أسوأ ما يمكن تصوره والتعامل معه؛ هو أن يكون هناك صراع دامٍ وإشكالية مركبة ومهددة بقوة للاستقرار ولحالة الأمن الإنسانى والسياسى، وأن يطويها النسيان أو يتنازعها فى الاهتمام الإقليمى والدولى، ما هو أخطر أو أكثر إلحاحًا فى بعده الموضوعى والزمنى. هذا بالضبط ما تعانيه الأزمة السودانية فى اللحظة الراهنة، فرغم اندلاعها فى ١٥ أبريل الماضى وما جذبته من انتباه حينها، استمر طوال الشهور الستة الأولى من عمرها، ووصفت حينها بأنها مهددة بشكل واسع على استقرار الإقليم بكامله، خاصة بعد أن تبين أن قوات «الدعم السريع» وضعت خيارها ورهانها الكامل على الاحتكام للسلاح فى إدارة صراعها مع الدولة السودانية.

جاءت أزمة «قطاع غزة» لتسحب بساط الاهتمام من الحرب المستعرة الدائرة فى السودان، فالجيش السودانى ممثلًا للدولة السودانية انحاز لإنقاذ العاصمة الخرطوم مما يتهددها من محاولة انقضاض قوات الدعم السريع للاستيلاء عليها. وهذا تسبب فى إطالة أمد المشهد بكل تعقيداته، وفتح آفاق خطورة تمدده إلى ما هو خارج العاصمة؛ ربما من شهوره الأولى، لكن الوتيرة تتسارع على نحو حاد منذ بداية العدوان على قطاع غزة بداية أكتوبر الماضى. وربما هذا ما دفع الأمم المتحدة ممثلة فى المبعوثة الخاصة بالقرن الإفريقى «هانا تتيه»؛ إلى إصدار تحذير منذ أيام من أن المعارك الدائرة فى السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، تقترب من الحدود مع دولة جنوب السودان، ومن منطقة «أبيى» المتنازع عليها بين البلدين. وفى الجلسة التى عقدت خصيصًا بمجلس الأمن لبحث الأزمة السودانية، أكدت المبعوثة الأممية وتقارير المراقبين المعتمدين استيلاء قوات الدعم السريع مؤخرًا على مطار وحقل «بليلة النفطى» الواقع فى ولاية غرب كردفان السودانية. ووفق هذا التأكيد ففى حال استمرت المواجهات والقتال على هذه الوتيرة العسكرية بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، فإنه سيكون على شفا الوصول إلى تخوم «أبيى»، بل قد يمتد إلى الحدود مع دولة جنوب السودان. وهذا متغير كبير وفارق؛ ويرتب للدعم السريع سيطرة قواته على جزء مهم من حدود الدولة السودانية، مع جارتها جنوب السودان.

الجدير بالذكر أن هذه المنطقة بالأساس تعانى منذ سنوات، من هشاشة عميقة للوضع الأمنى، فالتوازنات القبلية فيها شهدت عديدًا من التقلبات واللجوء للسلاح فى بعض فصول الصراعات المحلية، التى دارت مرات عدة بين قبيلتى «المسيرية» و«دينكا نقوك». فهذه المنطقة التى ظلت محل نزاع بين دولتى الجوار السودانى منذ إعلان الجنوب انفصاله عام ٢٠١١، كانت قبل الأزمة الأخيرة قد أعطت بعضًا من الإشارات الإيجابية حول اقتراب الوصول إلى تسوية ما للأوضاع، وكانت هناك إرادة تشكلت لدى الطرفين وتدخلت مصر وبعض الأطراف الإفريقية للدفع فى هذا الاتجاه، إلا أن ما جرى فى السودان عطل ما كان يمكن الوصول إليه حول الوضع النهائى لأبيى، ومعها كان سيمتد الاتفاق ليشمل كامل إشكاليات المناطق الحدودية بين البلدين. هذا التطور العسكرى الأخير وربما وصول قوات الدعم السريع على مساحات من الأراضى التابعة لأبيى، سيعقد المشهد بالتأكيد ويبعد آفاق التسوية عن إمكانية التحقق الفعلى على الأرض.

ميدانيًا أعلنت قوات الدعم السريع سيطرتها مؤخرًا على ثلاث مدن مهمة فى إقليم دارفور، من أصل خمس مدن هى الأكبر فى هذا الإقليم الاستراتيجى المهم. هى «نيالا» فى الجنوب ثانى أكبر مدينة بعد الخرطوم، ومركز قيادة الجيش فى الولايات الغربية، ومدينة «زالنجى» فى الوسط، ومدينة «الجنينة» فى الغرب التى ظلت تشهد قتالًا عنيفًا منذ الشهر الأول من عمر الأزمة، حتى الآن. وعلى الجانب المقابل ما زالت قوات الجيش السودانى حاضرة وتسيطر بقواعدها، على مدينة «الفاشر» شمال دارفور و«الضعين» التى تقع فى المنطقة الشرقية للإقليم. ورغم احتدام القتال والسباق تجاه السيطرة على المناطق التى تقع بعيدًا عن المركز، إلا أن العاصمة المثلثة لم يتوقف فيها القتال طوال هذه التطورات فى الأحداث. فقد دارت خلال هذا الأسبوع؛ اشتباكات قوية بين الجيش السودانى وقوات الدعم السريع فى أجزاء واسعة من مدينة «أم درمان» غرب العاصمة، كما شهد «جبل أولياء» ومنطقة سلاح المدرعات جنوب الخرطوم أعمالًا عسكرية مشابهة باستخدام الأسلحة الخفيفة والثقيلة، شاركت فيها الطائرات الحربية والمسيرات التى أمطرت تلك المناطق بالقصف والذخائر، ما رفع أعداد الضحايا والمصابين إلى مستويات قياسية.

لهذا أصدرت منظمة العفو الدولية؛ تقريرًا حظى بمتابعة واسعة، ذكر فيه «تيجيرى شاغوتا» المدير الإقليمى لشرق وجنوب إفريقيا للمنظمة، أنه مع دخول الصراع شهره السادس أسفر عن مقتل ما لا يقل عن «٥٠٠٠ مدنى» وإصابة ما يزيد على «١٢٠٠٠ شخص»، فى الوقت الذى احتفظ فيه هذا الصراع بالرقم القياسى لأعداد النازحين قسريًا فى مناطق الصراع، مسجلًا نزوح «٥.٧ مليون شخص» تعرضوا لهذا الأمر؛ جراء التهديد الكبير الذى يحاصرهم. ومما ذكره المدير الإقليمى أن «كل يوم، يتعرض المدنيون فى السودان للقتل، ويضطرون للنزوح مع استمرار احتدام النزاع، لقد تدمرت حياة عدد لا يحصى من الناس دون داعٍ فى الأشهر الستة الماضية». وهناك من المنظمة ومن عدد من كبار المؤسسات المعنية بالدفاع الحقوقى لما يجرى فى مناطق الصراعات «٥٠ منظمة»، دعوة إلى المجتمع الدولى للتعبئة من أجل معالجة الكارثة الجارية فى السودان. كما وجهوا نداء مباشرًا إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، كى يحث جميع الجهات الفاعلة ذات الصلة على زيادة الدعم الإنسانى للسودان بشكل كبير، ومطالبة الأطراف بالسماح بإيصال المساعدات الإنسانية دون عوائق.

يبقى الأكثر إلحاحًا وهو ضرورة أن يقوم مجلس الأمن أيضًا؛ بتمديد حظر الأسلحة الحالى ليشمل السودان بأكمله، وضمان تنفيذه عمليًا على الأرض. فهناك جرائم حرب واسعة النطاق ترتكبها قوات الدعم السريع خلال النزاع، بدأت صورها ومقاطع مسجلة لها تغزو المنصات الإخبارية، ووسائل النشر المستقلة. وهى توثق وقوع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين فى الهجمات المتعمدة والعشوائية، التى تشنها تلك القوات سعيًا وراء تغيير السيطرة الميدانية على الأرض، قبل أن يستفيق العالم والمراقبون.