رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خلف أشباه الظلال

صافيناز جمال
صافيناز جمال

وسط تلاحم كتلة بشرية ضخمة، على الرغم من النزعة الطفولية بداخله، ما زال يحفظ طقوس الرجال فى مثل هذه الظروف. ظل يردد معهم بقوة، محاولًا إبراز صوته: «لا إله إلا الله.. لا إله إلا الله». وبنظرة خاطفة إلى الرصيف الآخر، لمح أصحابه وهم يلعبون فوق الأرض المخطوطة فى مدخل الحارة، لكنه مضى فى تجاهل شديد لما رآه، مثلما تجاهل دعوتهم له إلى اللعب، فهو ما زال يذكر «العلقة السخنة» التى لقنها له والده، كأول درس فى الرجولة. 

بدت الكتلة تزداد ضخامة، فكلما مرت بمقهى أو دكان انضمت إليها جموع من الرجال، على نحو استحال معه سير المرور بطريقة طبيعية. اضطربت حركة المارة، وبدأ التكتل يتفكك نسبيًا بفعل تداخل السيارات، وساد ضجيج المكان بين صافرة رجل المرور، وكلاكسات السيارات، وصرخات بعض النساء. 

هنا آتته الفوضى فرصة اقتناص النظر إلى الصغيرة التى تطل برأسها عبر نافذة السيارة الحمراء.. كانت تبتسم وهى تمد يدها إليه بمكعب الشوكولاتة. أما هو، فكان يقترب منها بقدر شوقه إلى أخته زينب، فهى تشبهها كثيرًا. الفرق أن زينب كانت أصغر من أن تحمل مكعب الشوكولاتة.. زينب التى ما رآها تبتسم، فقط كانت تصرخ منذ ميلادها وحتى لحقت بأمها، بعد أن أتمّت عامًا واحدًا. يومها تحجر الدمع فى عينيه وأبوه يتوعده بالقتل إن بكى، «فخلفة البنات عار كان يجب أن يواريه التراب». 

استبد به الحنين، فمد يده ليداعبها، لكن السيارة ذهبت.. وذهبت معها ملامح زينب للأبد. 

انحرف يمينًا مع الجموع فى اتجاه المسجد. هنا حاول أن يسبق عم محمد هذه المرة، فصاح: «وحدوووه». لكن صوت الأطفال فى مثل هذه الظروف عادةً ما يثير الضحك والسخرية. حاول كتم غيظه حتى دخل المسجد، وهناك أصر على أن يؤدى صلاة الجنازة فى الصف الأول، كأى رجل. 

انتهت الصلاة، وانشغل الجميع للحظات، فى حين اقترب هو من رأس الصندوق الخشبى المستطيل، وقال كأنه يهمس فى أذن: «نَمْ واطمئن، فقد تركت وراءك رجلًا لا يبكى حتى لفراق أبيه».