رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العودة فى الزمن الصعب

سنوات ليست قليلة مضت ظن العالم البغيض فيها أن ما خططوا له منذ وقت طويل قد تحقق.. احتلوا الأرض والبيوت والحناجر.. غيّروا فى الخرائط والجغرافيا.. تجسسوا وتآمروا وتسامروا وابتهجوا.. فلسطين لن تعود، هكذا أرادوا.. ولسنوات تسرب اليأس إلى كثيرين فى عالمنا العربى.. تعب المجاهدون والحالمون والشعراء.. جميعهم ظنوا أيضًا أن الأمر قد انتهى.. وأن القضية الفلسطينية صارت وهمًا. 

استراح الكثيرون، أحباب وأعداء، واستكانوا.. لكن أطفال الحجارة كبروا.. صارت حجارتهم طوفانًا، صحا العالم وقد وجده فى حجرة نومه.. ووجد أبناء الكيان الصهيونى يندبون قتلاهم وأسراهم وجرحاهم صباح سبت حزين ذكرهم بأكتوبر، الذى يحاولون نسيانه طيلة خمسين سنة مضت. 

العالم.. الذى ارتضى باغتصاب الأرض، وتهجير أصحابها لصالح دخيل، تسانده آلة إعلامية بغيضة وكاذبة لسنوات جعلت من أهل البيت معتدين وإرهابيين، ومن المحتل صاحب دار لا يستطيع النوم بهدوء فى بيته.. مندهش الآن كيف صحا هؤلاء الذين ظنناهم ماتوا.. من أين جاءوا.. وكيف واتتهم الشجاعة؟.. إنهم لا يعرفون معنى الوطن.. قطعًا هؤلاء لا يعرفون، ولم يسبق لهم أن درسوا فى كتبهم معنى الموت من أجله. 

ما يحدث فى فلسطين ليس مجرد عملية نوعية لها ما بعدها.. لكنها كابوس سيظل يقلق مضاجع الكيان ومَنْ يسانده.. كابوس يجعل عيونهم مفتوحة للأبد.. والأهم أنه يعيد ما ظن البعض أنه مضى ولن يعود.. يعيد قضية أهل فلسطين وحقهم المسلوب إلى ضمائر أتعبها النسيان.. فهل يعى العالم حقًا أن الحقوق لن تسقط بالتقادم؟

كنت لسنوات أحسد شباب وشابات فلسطين على أغنياتهم ورقصاتهم وسط كل هذا الغياب.. كنت أحسد أطفالهم وهم يرددون مع مارسيل خليفة.. مرفوع الهامة أمشى.. فى عينى قطفة زيتون وعلى كتفى نعشى.. وأنا أمشى... كان ذلك الإيقاع يسحرنى وأنا أشاهدهم فى أعراسهم يرقصون دبكتهم على نغمات.. «أنا دمى فلسطينى».. وكدت أبكى وأنا أرى شبابًا مصريبن يغنونها فى فرح مصرى قريب بإحدى مدن الدلتا، واستغربت، فعرفت أن العريس له أحباء وأصدقاء من فلسطين جاءوا لمجاملته، فجاملهم كل من هم فى الفرح بالرقص والغناء على أنغام.. «أنا دمى فلسطينى». 

الجديد فى الأمر أن أطفالنا، الذين راهن البعض على تشويه وعيهم واختفاء بصيرتهم لسنوات، تركوا ألعابهم الإلكترونية وراحوا يبحثون عن أخبار وتداعيات عملية طوفان الأقصى.. أطفالنا الذين لم يسمعوا عن دير ياسين وصبرا وشاتيلا.. عن النكبة وعن الأبطال الذين قاوموا.. أطفالنا الذين لم يسمعوا عن محمد الدرة.. راحت أياديهم تستدعى كل ما جرى.. وراحوا، بينما شاشاتنا تحتفل بنصر أكتوبر الغالى، يبحثون عن كل ما سبق.. لحظة مباغتة أذهلت الجميع، وربما تغير من الحسابات الكثير فى قادم الأيام.. ليس مهمًا أولئك الذين يحذرون من رد الفعل ويصدرون الارتعاش والجبن إلى مقدمة المشهد.. هؤلاء لا يصدقون أن من أشعل النيران يعرف متى تستقر وإلى أين تنتهى.

الأوطان لا ترحل.. الأوطان لا تموت.. وعلى المتنطعين الذين أرهقونا بنظرياتهم العفنة أن يعيدوا حساباتهم... لا سلام ولا أمان على جثث أصحاب الأرض.. العدل أيضًا لا يموت.. وربما يكون ما حدث من ردود أفعال عربية سببًا فى أن يعيد المختلفون فى الداخل الفلسطينى حساباتهم.. وحدتهم وقوة تماسكهم هما السبيل الوحيدة لعودتنا وعودة حقوق أهلنا فى الأرض المحتلة.. وعلى كل من خطط وتآمر وظن أن كل شىء قد انتهى وأن خريطة العالم سيعاد رسمها كيفما أراد أن يعود إلى رشده.. الأوطان لا تموت.