رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوم ذبول الوردة

                                                                                      
 هى "أختى"، التى لم تنجبها أمى، صديقتى الحميمة، وأنا ليس لى صديقات.  
شبيهتى، وأنا لا يسمح لى "هوسى" بحب نفسى، أن أعترف بأن هناك امرأة تشبهنى، أو حتى تصلح لأن تكون "شبيهتى". 
  هل أنجبتها "أمى" من رجل أحبته، دون معرفتى، وبقيت الحكاية، سرًا أخذته معها إلى نومها الأبدى؟، هل كانت  صديقتى وأنا "فاقدة الذاكرة"، فى زمن ما؟. وهل هى امرأة إلى هذا الحد، فريدة من نوعها، حتى تتجرأ وتجبرنى على الاعتراف علنًا، أن المرايا كاذبة، وأنها شبيهتى وتشبهنى؟ 
   كلما تعرفت عليها أكثر، يزداد  يقينى، أنها امرأة مصنوعة من قماش أنوثتى، كاتبة تستقل قطار الكلمات نفسه، الذى يحملنى إلى ما يشتهيه قلبى، وما يسبب مأساته، وشاعرة
تسبح فى بحور الشِعر التى تغرقنى، ولا أستغيث بطوق نجاة. 
   أزهو بشعور قوى، لا يفارقنى، أننى أكمل المسيرة اللامنتهية، فى الكتابة والوحدة وعدم الانتماء إلى كوكب الأرض.
     عندما وجدت رجلًا يفكر بلغتها الخاصة، ويكتب الشِعر والفلسفة ويرسم اللوحات، كان عصىّ المنال إلا بالرسائل المشعة بالنبل العاطفى، والسمو العقلى، وهذا تشابه آخر بيني وبينها، حيث تأكدت من تجاربى، أن الحب الحقيقى الراقى، غير الملطخ بشهوات الجسد، ولا يستحم بماء الذكورية الآسن، غير متاح، وعلينا الانتظار لزمن آخر.
   كان لها صالونها الثقافى فى بيتها كل ثلاثاء. وأنا أيضًا كنت أعقد فى بيتى الملتقى الثقافى كل ثلاثاء. 
   لها صورة نادرة مع أمها، وهى طفلة تضع فيونكة بيضاء فى شعرها، وأنا لى صورة مشابهة، إلى حد أنها خدعت أمى، التى سألتنى مندهشة: "ومنْ هذه المرأة الجالسة أمامك يا"مُنى"؟
عاشت وماتت وحيدة. وهذا أيضًا مصيرى. 
أكبر اختلافين بيننا، أنها فى أواخر حياتها، اتهموها بالجنون، وهى استاءت من التهمة، وأثبتت بطلانها، أما أنا، فالجنون الذى وُلدت به، لا أعتبره تهمة، بل شرف، أدعيه وأمارسه وأشتهيه أكثر، والاختلاف الثانى، أن زمنها رغم قسوته، وذكوريته، كان فيه "شوية خير وشوية شِعر وشوية أدب".. أدب الأقلام وأدب الأخلاق.  
   إنها مى زيادة 11 فبراير 1886- 17 أكتوبر 1941، التى سأحتفل بذكرى رحيلها الـ182، بعد أيام قليلة وحدى كالمعتاد، فالناس فى بلادى مشغولون بارتفاع الأسعار، والزلازل، والإجازات، وهل تزيد المعاشات والأجور والرواتب مرة أخرى، ويتبادلون الأحاديث عن انتخابات 2024، ومهرجانات السينما فى 2023، والوفيات من المشاهير، وماتشات الكورة المحلية والعالمية، وعن الإعلانات التى يقدمها الممثلون والممثلات، ومحمد صلاح عابر الحدود بقدميه. 
"مى" فراشة الأدب العربى، ووردته اليانعة، جرحت بأشواكها، جلد مجتمعاتنا الممتلئ بالدمامل الاجتماعية والثقافية والذكورية. كانت تريد أن تنظف وتطهر وتعالج، يريدونها أن تسكت، وتقبع راضية على ذمة زوج. 
"مى"، تعبر عن مأساة كل أديبة، تجمع بين الجمال الخارجى، والجمال الداخلى، والجمال الأخلاقى، فى مجتمعات لا يسعدها إلا المرأة ذات الحواجب المنتوفة، والخصر الملفوف، والعيون المرسومة، والشفاة الحمراء، والشعر المنساب على الأكتاف، والتمايل على الكعب العالى. امرأة تجيد الطبخ والمسح وخدمة الأطفال، جاهزة ليل نهار، لأن تُلتهم فى وجبات النكاح.
"مى زيادة"، موهبة نادرة الخامة، من أغلى الأحجار الكريمة، خالية من شوائب الادعاء، والتقليد، مثقفة العواطف، راقية العقل، متعددة القدرات، متمردة التجليات، فهى تكتب الأشعار، والمقالات الصحفية، والخواطر الأدبية، وتكتب المحاضرات وتلقيها بكل براعة، وصحفية تفيض مقالاتها بأسلوب جديد، يعكس عمق ثقافتها، وخطيبة تتحدث بشغف قلبها، تجيد تسع لغات، ومترجمة تضيف إلى النص المترجم، أناقة فوق أناقته، ومديرة حوار لبقة، رحَالة لفت العالم، مدافعة عن حريات النساء، بوعى عميق، وعيون دائمة اليقظة للتمييز والقهر وغياب العدالة. 
       فى صالون "مى"، اجتمع أهم أدباء وشعراء ومفكرو عصرها، مثل طه حسين، وأحمد شوقى، ومصطفى صادق الرافعى، وخليل مطران، وعباس العقاد ومصطفى عبد الرازق شيخ الأزهر. لم يفلت أحد من جاذبيتها الفريدة، تمزج بين انطلاقها وتفتحها، مع استقامة الخلق، والشياكة البسيطة. 
   قلبها عنيد، دقيق فى اختياراته، صعب إرضاؤه،  لم يخفق إلا لرجل يبعد عنها آلاف الأميال، لكنه يوقظ عواطفها النائمة، ويفهم رسالة الأدب والفن، كان "جبران خليل جبران" 6 يناير 1883 - 10 أبريل 1931، الحبيب الذى لم تلقه إلا بالرسائل المسافرة بينهما، منذ 1911 حتى رحيله.
فى أحد كتبها “المساواة” 1923، أوضحت أن دعم الرجال مهم للنساء. لكن لن يحرر المرأة إلا المرأة نفسها. وطموح المرأة لا يجب أن يكون المساواة بالرجل، لأنها حينئذ ستحرم نفسها من عالمها الذاتى، الذى تصنعه هى بإلهامها وأحلامها. وكتبت أن حجاب المرأة، مفروض من الرجال، ليحجب تقدم المرأة الفكرى والعملى. 
  فقدت "مى" كل منْ أحبتهم، فى أوقات قريبة متتالية، الأب، ثم جبران، ثم الأم، أصابها الفقد، بزهد فى الحياة، وعزوف عن مواصلة أنشطتها، وساءت حالتها عندما اتهمها أقرباؤها بالخلل العقلى، وذهبت إلى مستشفى العصفورية للأمراض العقلية، فى بيروت. 
    وعادت "مى" إلى مصر، وأعطت محاضرات تنم عن عقل بكامل قواه وحيويته، لكنها ملت الحياة والناس، وتوقف قلبها المفعم بالحماس، رغم أنها مازالت تتنفس.  
  فى مصر، بمستشفى المعادى، يوم 17 أكتوبر 1941، ذبلت الوردة، وتوقفت فراشة الأدب عن التحليق، وسكت قلبها اللامنتم، المحروم من الحب، الحزين أكثر من طاقته. 
    النساء والرجال، ضيوف صالونها الأسبوعى، والعشاق الذين فُتنوا بها، غابوا جميعًا عن جنازتها، إلا أحمد لطفى السيد، وخليل مطران، وأنطوان الجميل. 
   وهذا تشابه آخر بينى وبين "مى"، لكنها أفضل حظًا. فمن أين لى بمثل هذه القامات الثلاث، لتمشى فى جنازتى؟       
ختامه شِعر 
--------------
أشتهى النوم فى أحضانك 
لا توقظنى لأى سبب كان 
إعصار هائل.. حريق ضخم 
زلزال مدمر.. أو حتى بركان 
دعنى أسكب صرخاتى وآهاتى 
على صدرك الدافئ الحنون 
ألهمنى كلمات وقصائد تشبهنى 
ومارس معى طقوس الجنون 
أريد أن أصمت فى أحضانك
أشتهى البكاء الهادئ حتى الذوبان
لا تعدنى بأى شىء 
فأنا لا أبحث إلا عن إنسان.