رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كوثر مصطفى.. أكيد لسه الأغانى ممكنة

هذه ليست المرة الأولى التى أكتب فيها عن كوثر مصطفى.. لكننى هذه المرة لا أستجلب أغنياتها التى كثيرًا ما حرضتنا على مبادلتها البهجة بالكتابة عن أشعارها.. هذه المرة نكتب لندعو كل من يعشق هذه الأغنيات لأن يدعو لها بأن تمر من أزمتها الصحية بخير وسلام.. وأن تعود إلى أقلامها وأوراقها سريعًا.. فمحبو أغنياتها لا يطيقون الغياب. 

عرفت كوثر مصطفى مطلع ثمانينيات القرن الماضى مع صدور ديوانها الأول الذى قدم له الكاتب الكبير عبدالحميد يونس.. وعلى عكس التجارب السابقة لشاعرات مصريات وجدنا أنفسنا أمام شاعرة تعرف ما تقول.. الموسيقى تسبق تشكيلاتها الجمالية التى لا تلتزم المألوف وتتمرد عليه.. لم تقلد كوثر شعراء العامية من الرجال.. ولم تقترب حتى من روح ما أسموها قصيدة النثر فى العامية.. ببساطة صنعت خلطتها.. وكان جليًا اقترابها من عالم الموروث الشعبى وافتتانها به.. واستمرت تجلياتها فيما بعد لتكشف ليس فقط عن ولعها بهذا التراث ولكن القدرة على استلهامه وإعادة إنتاج أجمل ما فيه بشكل بِكر ومتمرد فى آن واحد.. ومن القصيدة راحت تفعل ذلك أيضًا فى عالم الغناء.. مع منير وحنان ماضى وآمال ماهر وغيرهم.. منير نفسه، وهو صاحب مشروع أسبق مع شعراء مغايرين، مثل مجدى نجيب وعبدالرحيم منصور وعصام عبدالله، وجد صوته مختلفًا مع كلمات كوثر مصطفى.. سواء فى تلك الأغنيات التى كتبت للسينما، مثل «لسه الأغانى ممكنة» أو للكاسيت، كما هو الحال مع «شد لحاف الشتا م البرد» مثلًا.. حيث فوجئ جمهور منير بمفردات مثل: «حط الدبلة وحط الساعة.. علّق حلمه على الشماعة».. ولم ترتكن كوثر إلى نجاحها المبكر والمبهر مع منير.. بل راحت تنتقل من تجربة إلى أخرى بنفس العنفوان والرغبة فى تغيير العالم وليس مفردات اللغة والموسيقى التى تعودناها.. كوثر فى «بكار» غيرها فى «أمايا يامّه».. وغيرها فى «مدد».. والأخيرة عبّرت فيها بشكل استثنائى عن قدرات فذة فى الكتابة التالية لموسيقى الفلكلور.

ر مصطفى أنجب بنات جيلها.. أغنية التسعينيات وما بعدها فى ظنى هى التجربة الأكثر تأثيرًا بعد تجربة نبيلة قنديل فى التعامل مع الموروث المصرى وبعثه من مواته والتغنى معه وبه لرسم ملامح موسيقى مصرية خالصة.

تجربة الكتابة على ألحان جاهزة أو مأخوذة عن لحن فلكلورى ليست بالأمر الهين لمن جرّب ويعرف كواليس وتفاصيل صناعة هذا النوع من الأغانى.. ومن الطبيعى أن يبدو الأمر عقلانيًا تمامًا.. لا عاطفة ولا تجربة خاصة.. فقط مهارة وشطارة وصنعة.. وهذه مَلكات تحظى بها كوثر مصطفى بالطبع.. لكن ما فعلته ليس كذلك.. فلم يلحظ أحدنا أن تلك الأغنيات لها أصل شعبى أبدًا.. وجاءت كأنها خُلقت للتو.. ومن أصعب هذه الأغنيات تلك التى يتم جلب ألحانها من فلكلور ألعاب الأطفال وأغنياتهم.. خذ عندك مثلًا أغنيتها الشهيرة مع منير «سو يا سو.. حبيبى حبسوه».. وما فعلته كوثر بالتزامها الفنى بسياق لحنى طفولى مركب.. لقد أنستنا تمامًا أن هذه الأغنية كان لها أصل.. وربما يفسر ذلك الإقبال الهائل من أطفال مصر والعالم العربى واستجابتهم لمقاطع شديدة الخصوصية، ولكنهم استساغوها من الخليج إلى المحيط.. حتى إنهم تناسوا أن التى تغنى من المفترض أنها «أنثى».. «حبيبى عايزله ترتر.. منين أجيبله ترتر.. ده الواد بياع الترتر.. حبسونى وحبسوه».. لقد تجاوزت كوثر مصطفى الزمن الذى خرجت منه الأغنية الأم.. وهو الحال نفسه فى التجربة الصوفية شديدة الخصوصية.. «مدد يا رسول الله».. استفادت كوثر من التراث الجعفرى وطورته وأضافت إليه بشكل لم يسبقها إليه أحد.. تجاوزت إيقاعات الحضرة التقليدية وخرجت من عباءة موتيفات شبه محفوظة فى «المديح» إلى عوالم إنسانية أرحب.. اسمع كده:

«أقسمت بالإسراء.. وبراءة العذراء

الدم كله سواء.. حرام بأمر الله»

لقد هضمت كوثر فى ذلك المقطع البديع الصغير كل ما استقر عليه الوجدان الشعبى فى أزمنة متفاوتة ورسالات وشرائع مختلفة لتلضمها بيسر تحسد عليه فى أغنية صوفية مبهجة ورصينة فى نفس الوقت.

لا أود الاستطراد كثيرًا فى السرد عن تجربة أراها متفردة فى الغناء المصرى فى سنواته الخمسين الأخيرة.. فقط هى إشارات صغيرة عن مشروع كبير لا يمكننى أن أتجاهل بداخله التعبير عن عواطف أنثى بشكل غير معتاد.. ولتكن صرختها مع حنان ماضى «أمايا يامّه» نموذجًا سمح لياسر عبدالرحمن بجنون موسيقى موازٍ.. هى ليست أغنية حب عادية.. ولا هى قصة صراع بين جيلين.. أم وابنة.. لكنها صراع بين أنثى وإنسان يحتاج إلى حريته فى مواجهة تقاليد وعادات وأحكام لم يعد لها وجود فى الواقع.. لكنها ما زالت تحكم وتتحكم فى سلوكيات الكثير منا. 

«أمايا يامّه.. شدى الضفاير

شدى رباطها عصّبينى»..

يكفينى ذلك التعبير الأنثوى الريفى البديع «عصّبينى».. من رباط الرأس وتعصيبه.. مرة أخرى.. هذا ليس أوان التفاصيل.. هى مجرد إشارات فرضتها حالة الشاعرة الكبيرة التى تواجه بشجاعة متاعبها الصحية مثلما واجهت ذكورية معتادة فى عالم الشعر والغناء.

لا أعتقد أن نقاد الشعر والغناء فى بلادنا اقتربوا من تجربة كوثر مصطفى بالشكل الذى يليق بها.. ولا أظن أنها كانت تنتظر ذلك.. هى كما أظنها تشبه أغنيتها الطفلة «يا بنت يلّى بتغزلى قفطانه».. هذه الطفلة التى تلهو بغزلها صباحًا ثم تعود لتحله إذا ما حلّ الليل... هى نفسها كوثر مصطفى التى تمارس لعبة الغناء معنا ببراءة طفلة وعقل مهندس كيمياء يجرب فينا وفى مفرداته لعبة الحب.. حب الحياة.

لا أحب الكتابة عن المرض.. أى مرض.. ولا أناشد من بيدهم الأمر أن يتدخلوا للإسراع بعلاج مبدعينا.. لكننى هذه المرة أحتاج إلى الجميع.. إلى محبتهم ودعواتهم.. ربما تغضب شاعرتنا أننا نفعل ذلك دون إذنها.. ربما.. كل ما أتمناه أن تسامحنا إن فعلنا.. فنحن فى أشد الحاجة لنغنى معها.. لسه الأغانى.. ممكنة.