رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زورونى كل سنة مرة

  حينما كان يشدو بهذه الأغنية، ترى أكانت عشما، أو طلبا ملتفا بالحياء، أم أمنية، أم حلما ورجاء؟؟. 
    أود أن أغير هذه الحالة التى تنتابنى، كلما قررت أن أكتب عن رجل أحبه، وأدين له بالكثير. 
    ما أسهل الوقوع فى الحب، وما أصعب الكتابة عن المحبوب. 
     الحالة نفسها الليلة، تخيفنى، وتأخذ أطول من اللازم. 
أرق بالليل، وارتباك بالنهار، مزاج متعكر متوتر، لا مذاق الشاى يصلحه، ولا 
اعتصار آخر رشفات الفنجان، معطر بالُبن المحوج بالمستكة والحبهان. 
  كم من السهل أن يخفق "القلب". وكم هو صعب جدا أن يخفق "القلم". 
      بارادتى أستسلم لهذه الحالة المرهقة. 
   فالحب مسئولية تلزمنى بتحمل العناء. والحب سيمفونية لا يخلدها الزمن، الا بالعزف على أوتار الوفاء. 
  ماذا أكتب عن "سيد درويش البحر" 17 مارس 1892- 15 سبتمبر 1923، فى المئوية الأولى للرحيل؟؟. 
     فى "كوم الدكة" ، عند "البحر"، كان مولده. ومن طباع "البحر"، أخذ 
النفور من الطاعة والرتابة والتقليد.       
ولأنه ابن "البحر" الوفى، كان لابد أن يحدث ثورة، فى الموسيقى العربية، شكلا، ومضمونا.  
    ألحانه برائحة الخير، تحرك أجمل وأنبل العواطف، تطير بنا الى آفاق حرة تدهشنا، تزيل الجلد الميت الملتصق بأجسادنا، تحرضنا على مقاومة كل حصارات "النشاز". حالة عقلية وجدانية تنظفنا، تطهرنا، تقوينا، وتبهجنا، ومعها نكتشف الموسيقى داخلنا.
   لم يخاصم التطريب، والارتجال، والزخارف، لكنه التزم بالتعبير البسيط عن اللحن. 
قًلب المسرح الغنائى، رأسا على عقب، وجدد فى جميع ألوان، وقوالب الغِناء، الموشح والدور والطقطوقة والمونولوج والنشيد الوطنى، والنشيد الشعبى غير المصاحب بالآلات الموسيقية "الأهزوجة". 
     كانت شهرزاد 1920، تأليف بيرم التونسى 23 مارس 1893- 5 يناير 1961، البداية التى أحدثت انقلابا فى تلحين الأوبريت. تنافست الفرق المسرحية المرموقة فى جعله بطلا لأعمالها، مثل فرقة الريحانى، وجورج أبيض، وعلى الكسار وأولاد عكاشة ومنيرة المهدية. 
  امتزجت ألحانه بالروح الوطنية المتمردة، وأول منْ غنى للمرأة يحرضها على النهوض، 
"ده وقتك ده يومك يا بنت اليوم قومى اصحى من نومك بزياداكى نوم".  
    مع بديع خيرى 17 أغسطس 1893- 1 فبراير 1966، كون ثنائيا متناغما فى الكثير من الأغنيات بكل أشكالها وقوالبها. وكذلك كان الأمر بينه وبين "يونس القاضى" 1  يوليو 1888- 1969، انسجاما ثريا فى الفكر والمشاعر.
     غنى لكل الفئات والشرائح، والطوائف والمهن. أدخل الموسيقى الكنسية فى نسيج اللحن.  
    عشق الموسيقى الايطالية، خاصة الأوبرا. وكان أول منْ استخدم آلات الأوركسترا الغربية فى الموسيقى العربية، وكان أول منْ أدخل الغناء البوليفونى "تعدد الأصوات". خلع الجبة والقفطان، ليصبح الشيخ المودرن، المزروع فى الأرض المصرية، العصرى فى رؤيته. 
    سئل سيد درويش عن انتاجه الغزير المتدفق المدهش، وفى وقت قصير، فقال: 
"وأقدر ألحن الجورنال".  
   آمن سيد درويش بأن "الغِناء للجميع" مثل الخبز والماء والهواء والحرية، لا أحد يحتكر الغِناء، ولا أحد يحتكر الوطن.
   فى سنة 1923 كان ينهى تلحين نشيد وطنى، لطالبات المدارس، احتفالا بعودة سعد زغلول 1 يوليو 1859- 23 اغسطس 1927، من المنفى، يقول : "مصرنا وطننا سعدها أملنا"، تأليف بديع خيرى .
    وفعلا، عاد سعد زغلول من المنفى، وغنت له الطالبات نشيد الاستقبال. وفى وسط
المشاعر الوطنية المتأججة، لم يكترث أحد بجنازة يمشى فيها، أربعة أشخاص فقط. وكانت جنازة الشيخ سيد درويش.
  من إبداعاته التى أعشقها، "أنا هويت وانتهيت".. "والله تستاهل يا قلبى".. 
"ضيعت مستقبل حياتى"، "على قد الليل ما يطول"، "قوم يا مصرى"، "سالمة يا سلامة"، "شد الحزام على وسطك"، "القلل القناوى"، "أنا المصرى"، "أنا 
عشقت"، "فى شرع مين"، "هز الهلال"، "يقطع فلان على علان". 
  أما أغنية "أهو ده اللى صار"، و"زورونى كل سنة مرة"، فلا أعرف كيف تدفقت موسيقاهما على خيال الشيخ سيد. اللحن الأول تأليف بديع خيرى، يشد معه أحبالى الصوتية، أغنى بكل طاقتى المتشبثة بنفسى، بالخير، وبوطن حر، وتنساب الدموع . أما اللحن الثانى تأليف يونس القاضى، فانه يفجر بكاء دون قطرة دمع واحدة. وما أصعب هذا البكاء الكامن تحت الضلوع. 
   سيد درويش، لا يقل عن نوابغ الموسيقيين فى التاريخ الموسيقى الغربى، بدءًا بالعصور الوسطى المنتهية سنة 1500، مرورا بعصر النهضة وعصر الباروك، ثم العصر الكلاسيكى ثم العصر الرومانسى المنتهى سنة 1900، مثل باخ، هاندل، فيفالدى، 
بيتهوفن، هايدن، شوبرت ، موتسارت، شوبان، ليست، مندلسون، كورساكوف، 
شتراوس، فاجنر، تشايكوفسكى. 
نقف إجلالا لنشيد السلام الوطنى المصرى، "بلادى بلادى" تأليف "يونس القاضى"، وأفكر أننا فى اللحظة نفسها، نقف إجلالا لمنْ أبدع موسيقاه، الشيخ سيد درويش البحر، الخالد لانهائى الامتداد، تماما مثل "البحر". 
------------------------------------------------------------------ 
من بستان قصائدى 
------------------------- 
وطنى 
قصائد أنحتها على الورق 
أحزان لها مذاق الفرح 
تاريخ اكتبه بالدم والعرق 
وطنى 
مرارة تشاركنى قهوتى 
حلم يؤنس وسادتى 
وطنى 
مسافات تفصلنى عن البشر
أغنيات أرددها تحت المطر 
حقائب لا تمل السفر 
-------------------------------