رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«تصور الإنسان عن الله» آخر كتابات «شحرور»: كيف توصلت الحضارات القديمة إلى «شكل الإله»؟

المفكر السورى محمد
المفكر السورى محمد شحرور

غادر المفكر السورى محمد شحرور، صاحب الرؤى التجديدية فى قراءة النص القرآنى، عالمنا بنهاية عام ٢٠١٩، ولكن كتابه الذى حمل عنوان «تصور الإنسان عن الله»، الذى لم يكن قد أتمه كاملًا، قد نُشر هذا العام عن «دار الساقى» بعد ما يقرب من أربع سنوات على وفاته. 

وعلى الرغم من أن فصول الكتاب لم تكتمل، كما أن ابنه قد وضع له المقدمة والخاتمة، فإن شحرور قد طرح بعض الأفكار الرامية إلى تقديم صورة بانورامية عن تطور الفهم الإنسانى للأديان وللذات الإلهية، بدءًا من تصور الإله فى الديانات القديمة وصولًا إلى ما ينبغى أن يكون بشكل عام وفق رؤيته الخاصة. 

تأتى أهمية الكتاب، من كونه آخر ما خطه واحد من أبرز المفكرين العرب فى مجال الدراسات القرآنية، الذى راكم خبرة طويلة ومفاهيم تجديدية خاصة به لتصير كتبه الأساسية مثل «الكتاب والقرآن»، و«الدين والسلطة»، و«الإسلام والإنسان»، و«دليل القراءة المعاصرة للتنزيل الحكيم»، من المراجع الرئيسية فى العلوم القرآنية. 

يسعى شحرور إلى رصد التطور التدريجى فى رؤية الإنسان للإله التى كانت مرتكزة فى بداياتها، ووفق مستوى وعى متواضع، على تجسيد الإله فى أشكال مختلفة باختلاف الحضارات والسياقات الثقافية والاجتماعية الحاكمة بكل مجتمع، وهو التجسيد الذى اتخذ أشكالًا متعددة على مر العصور إلى أن أدرك الإنسان فكرة التجريد فى إيمانه بالإله. 

ارتبطت رحلة الإنسان بالنظر فى فكرة الله بوجوده العاقل الذى دفعه للبحث عن تصورات لله حتى يعبده عن طريقها، فاستعان فى مسيرة بحثه لفهم وجود الله بالمحيط الدائر به من موجودات لفهم خالق الوجود، ثم وضع فلسفات مختلفة لفهمه.

يرصد شحرور تصور الإله فى الحضارات القديمة، سواء حضارة بلاد الرافدين أو الحضارة المصرية القديمة أو الهندوسية أو البوذية، فيوضح أن تصور حضارة الرافدين للإله كانت عبر تصويره فى أشكال بشرية تُعبِّر وفق اعتقادهم عن قوى الكون، كذلك قامت معتقدات الحضارة المصرية القديمة على عبادة مظاهر الطبيعة، واعتبار قواها هى الآلهة المتحكمة بالكون وفى حياة الإنسان، ما أدى بهم إلى محاولة تقريب صورة الآلهة إلى أذهانهم كمن سبقهم بتصورها بشكل تشخيصى. 

كذلك فإن كلًا من الهندوسية، عبر مراحلها العديدة وتطوراتها التى وصلت إلى إيمان بالإله وأقانيمه الثلاث، والبوذية، التى قامت على بحث فى قضايا الدين من وجهة نظر فلسفية مرتبطة بمفاهيم الوجود، لم تخرج عن فكرة التجسيد حسبما يرى شحرور، مفسرًا ذلك بتواضع مستوى الإنسان المعرفى. 

يعتبر شحرور أن الرسالات السماوية جاءت لإبعاد الإنسان عن الفكر التجسيدى البدائى فى تصور الله، فقد كان كل رسول أو نبى يأتى بقفزة معرفية يدفع بها الفكر الإنسانى خطوة للأمام فى طريق التجريد والابتعاد عن الفكر التجسيدى البعيد عن وجود الله فى ذاته.

يرى شحرور أن مستوى إيمان الإنسان التجسيدى لم يسمح له بأن يؤمن بشكل تجريدى بوجود الله مباشرة، بل ظل معتقده فى وجود الله تجسيديًا حتى مع الرسالات السماوية، فقد حافظ قوم موسى على ثقافتهم الحسية ورسخوها فى أذهانهم رغم ما رأوه من معجزات، وكذلك فإن قوم المسيح عيسى بن مريم جسدوا وجود الله فى شخص المسيح؛ إلى أن جاء الإسلام ليضع نهاية لهذا الفكر التجسيدى. 

يقول شحرور: الإسلام جاء لتوحيد الله، ونبذ ما سوى هذا من معتقدات، وجاء كآخر قفزة معرفية يأتى بها الرسل والأنبياء ركيزتها الإيمان بوحدانية من جهة؛ لكن بأسلوب تجريدى من جهة أخرى، معتبرًا أن «محمد» الرسول الوحيد الذى ألغى التشخيص نهائيًا، وأرسى مبدأ التجريد وبلغ الوحى الإلهى الذى يتصف بثبات النص وحركية المحتوى، ما يعنى الإيمان بالعقلانية.

مع تأكيده أن الدين الإسلامى قد جاء لنقل تصور الإنسان عن الله من التجسيد إلى التجريد، فإن «شحرور» يلقى الضوء على أثر اختلاف التلقى للنص الدينى ومفاهيمه على فهم فكرة التجريد، ويركز فى توضيح ذلك على كل من الصوفية والسلفية، حيث يرى أن كليهما قد أخطأ فى فهم مقصد التجريد. 

ويوضح شحرور ذلك بقوله: الصوفية رغم محاولتها لترقى درجة من التجريد فى ثنائية تصور الله والوجود، فقد ابتعدت عن الخط الصحيح للتجريد لأنها خلطت بين الوجودين «الإلهى- الكونى» ومزجتهما فى وجود واحد، وكان هذا سببًا لدخولها فى وهم عدم التفريق بين الواقع والخيال، بينما الجانب السلفى من الفكر الإسلامى رفض كل محاولات الترقى بمعتقداته وحبس نفسه فى دائرة السطحية الفكرية، فتجمد فكريًا من حيث لا يدرى وتوقف فى مرحلة فكرية تاريخية لم يتجاوزها. 

ينتهى شحرور فى كتابه غير المكتمل بتوضيح أن الصياغة القرآنية تبرز الجدل بين الحقيقة المطلقة للوجود والفهم النسبى الإنسانى لها، ومن ثم فإن معرفة الله لذاته هى المعرفة المستحيلة التى تتجاوز حدود الإدراك والوعى الإنسانى، لأن الإنسان عاجز عن البرهان على وجود الله برهانًا علميًا، ولن يقيض لوعيه المحدود إدراك كنه الوجود الإلهى، وبالتالى فإن معرفة الله لا تتم سوى بالتعرف على سماته التى تتجلى فى الموجودات وبتلك الدرجة من التجريدية التى سعى الدين الإسلامى للوصول إليها فى رسالته.