رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قياسات درجة حرارة مياه الخليج

أعلن الحرس الثورى الإيرانى، الأربعاء الماضى، عن إجراء مناورة عسكرية فى الجزر الإماراتية التى تحتلها إيران، وهى طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى، وسماها الحرس مناورة «العميد الشهيد إسحاق دارا». 

وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية، «إرنا»، ذكرت أن التدريبات تركزت بشكل أساسى على جزيرة أبوموسى، على الرغم من إرسال الحرس الثورى قوات إلى جزيرة طنب الكبرى، أيضًا، مشيرة إلى مشاركة سفن وطائرات مُسيرة ووحدات صواريخ فى التدريبات. 

المتحدث باسم هيئة الأركان الإيرانية العميد أبوالفضل شكارجى، رغم توجيهه رسائل تهديدية مبطنة إلى دول المنطقة فى تعليقه على تلك المناورة بقوله: «يجب على الطامعين أن يروا جانبًا من سلاحنا لكيلا يرتكبوا خطأ فى حساباتهم»، إلا أنه وبالطبيعة الإيرانية أراد تحميل المناورة وحديثه، أيضًا، أكثر من بُعد فى وقت واحد، عندما تحدث لوكالة «تسنيم»، محددًا بأن المناورة التى جرت بالقرب من مضيق هرمز، رسالتها الأساسية إلى دول المنطقة، هى ضرورة التخلص من التبعية للأجانب لإحلال الأمن، داعيًا تلك الدول إلى تعزيز مساحة الثقة فى إيران، وضامنًا لهم حينها إحلال الأمن فى هذه المياه.

الولايات المتحدة بدا أنها التقطت الرسائل الإيرانية، فيما لديها القدرة، أيضًا، على فك شفرات وتحركات طهران، استنادًا إلى خبرة جولات التقارب والتنافر المستمرة بينهما طوال العقد الماضى، لهذا جاء رد الفعل الأمريكى سريعًا هذه المرة بالذات، بتوجيه السفينة الهجومية البرمائية «يو إس إس باتان»، وسفينة الإنزال «يو إس إس كارتر هول» إلى منطقة الخليج، وعلى متنهما أكثر من «٣٠٠٠ عنصر» من مشاة البحرية الأمريكية. 

هذا التحرك اللافت ربما يحمل العديد من الدلالات؛ أبرزها، بالتأكيد، الحفاظ على هذا المجرى الملاحى الاستراتيجى من مهددات التصعيد المتبادل بين دول المنطقة الذى يمكن أن يؤثر على تدفق ٢٠٪ من حجم تجارة النفط العالمى، ما قد يؤثر على استقرار الأسعار المتقلبة والمرتفعة بالأساس؛ جراء الحرب الروسية- الأوكرانية.

لكن التحرك الأمريكى لا يقف عند هذا الحد على أهميته؛ فهناك العديد من الرسائل موجهة إلى أكثر من طرف فى الإقليم وخارجه، فضلًا عن أنه يحمل استدارة عن توجه استراتيجى معلن من قبل واشنطن، بأفضلية الاهتمام بمنطقة شرق آسيا على حساب تقليص الاهتمام والانخراط فى قضايا منطقة الشرق الأوسط.

أولى الرسائل الأمريكية ربما تستهدف حلفاءها من دول الخليج، كونها تسعى إلى استعادة ثقتهم وترميم علاقاتها التى تضررت، مؤخرًا، على نحو كبير، على خلفية أولويات الاهتمام الأمريكى التى وجدوا أنها لم تكن على ذات النسق، مع متطلباتهم الأمنية فى مياه الخليج، وغيرها من القضايا التى بدت فيها رمادية الفاعلية الأمريكية، للحد الذى فتح الأبواب أمام قوى دولية أخرى لاستغلال هذا التراجع من أجل اكتساب مساحات لم تكن متاحة من قبل. 

ثانية تلك الرسائل موجهة بالتأكيد للصين التى تمثل أهم القوى المتقدمة، وهى الأكثر إثارة للقلق الأمريكى، خاصة بعد نجاحها الدبلوماسى فى لعب دور الوسيط الدبلوماسى بين السعودية وإيران، الذى قد يشهد تطورًا مستقبليًا للعب أدوار عسكرية وأمنية فيما بين الدولتين، أو بين دول ضفتى الخليج جميعًا استثمارًا لعلاقتها مع إيران، وميراثًا لدور أمريكى أعلن طواعية عن عدم الاكتراث بهموم وهواجس دول تلك المنطقة. 

وهناك من يرى فى هذا السياق بعدًا انتخابيًا أمريكيًا؛ حيث تدخل الإدارة الديمقراطية الحالية معترك انتخابات الرئاسة، دون تحقيق تقدم يذكر فى مسار حسم الملف النووى الإيرانى، الذى سبق للإدارة الجمهورية السابقة أن انسحبت منه، مؤكدة عدم الجدوى من التفاوض مع طهران.

لهذا ترى إدارة جو بايدن، الذى أعلن عن أنه سيخوض هذا السباق، هذا الملف كونه سيمثل بالضرورة نقاطًا سلبية سيصوب الجمهوريون هجومهم عليها، ما دفعه إلى اتخاذ مثل هذا القرار السريع الحاسم قبل الوصول لمحطة السباق الانتخابى الرئاسى بداية من العام المقبل.

التحشيد العسكرى الأمريكى يرفع درجة حرارة المياه الخليجية بالتأكيد، خاصة بعد إعلان الجيش الأمريكى عن دراسة نشر عناصر مشاة البحرية على متن السفن التجارية وناقلات النفط العابرة بمضيق هرمز. 

هذا إجراء غير مسبوق، لكن البنتاجون تستهدف منع إيران من الاستيلاء على السفن المدنية أو مضايقتها وتعطيلها، جاء ذلك بعد أن أرسلت البنتاجون قبل أسابيع؛ طائرات مقاتلة إضافية من طراز «F ٣٥» و«F ١٦» إلى جانب سفينة حربية إلى الشرق الأوسط، فى مسعى لمراقبة الممرات المائية الرئيسية فى المنطقة بعد تعرض سفن شحن تجارية إلى احتجاز ومضايقات من إيران. 

فالجيش الأمريكى لديه، مؤخرًا، قائمة طويلة بوقائع انخرط فعليًا فى البعض منها، فقد سجل أن إيران احتجزت أو حاولت السيطرة على ما يقرب من «٢٥ سفينة» من جنسيات مختلفة فى المنطقة، خلال العامين الماضيين فقط. 

ولعل عام ٢٠١٩ شهد الذروة فى حالة التوتر بين الولايات المتحدة وإيران، حيث وقعت فيه سلسلة متتالية من الهجمات على سفن الشحن فى مياه الخليج فيما عرف حينها بفصل «حرب الناقلات». 

وقد اتهمت طهران، حينها، كلًا من واشنطن ولندن بمحاولة الاستيلاء غير القانونى على النفط الإيرانى، تحت ذريعة تنفيذ العقوبات المفروضة التى لا تعترف بها طهران. 

ومنذ ذلك التاريخ والمبارزة على مياه الخليج وفى جواره تتصاعد حدتها كل فترة لمسببات متنوعة، لدى كل طرف منهما دوافعه الخاصة، فضلًا عن اعتبارات الأمن الملاحى بشكل عام، مثلما جرى فى يوليو الماضى، الذى ربما يمثل إرهاصات للمشهد الحالى، فعندما أعلنت الولايات المتحدة عن أن قواتها أحبطت محاولتين إيرانيتين لاحتجاز ناقلات تجارية فى المياه الدولية قُبالة عمان فى الخامس من هذا الشهر، قامت إيران بمصادرة سفينة تجارية فى اليوم التالى!

التصعيد الجارى فى العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران قد يبدو، على خلفية فصول سابقة مماثلة، أنه مدروس ولن يخرج عن السيطرة، بسبب حرص الجانبين على التمسك بمسار المفاوضات والوساطات الرامية إلى احتواء الخلافات بينهما، إلا أن دوافع كل منهما هذه المرة قد تتغلب على التعقّل، واحتمالية الانفلات تبدو هذه المرة أقرب من أى فصول سابقة، فى ظل مناخ أسخن كثيرًا مما يحتاجه النزوع للتهدئة.