رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصينيون المحدثون: أفكار وتأملات

يُمكننا القول إن التاريخ الإنسانى لم يشهد أى دولة كبرى أخرى رفعت مستوى معيشة شعبها وحسَّنت ظروف العمل خلال الفترة القصيرة هكذا «أى كما فعلت الصين».

وليام أورفلى هولت

مسئول مركز السياسات لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ مؤسسة «راند» الأمريكية

فى كل اللقاءات الفكرية والسياسية التى شهدتها زيارة وفد الأحزاب السياسية المصرية إلى الصين كان الحديث الذى لا ينتهى عن أقدم حضارتين إنسانيتين، مستمرتين بلا انقطاع: الحضارة المصرية والحضارة الصينية، اللتين يمتد عمر كل منهما لآلاف عديدة من السنين، قائمًا فى خلفية كل المداخلات المطروحة من الطرفين، ومصدرًا للفخر والاحترام، ومُبررًا منطقيًا، وحافزًا عمليًا لاستئناف العلاقات التاريخية الممتدة بين الشعبين والدولتين، وتأكيدًا لقيمتها فى العصر الحديث، الذى يشهد صعودًا مذهلًا للعملاق الصينى، ليس فى إطار قارته الآسيوية الكبيرة وحسب، وإنما قياسًا إلى الوضع العالمى كله.

تاريخ مجيد، وماضٍ عتيد!

تحتل الصين موقعًا متميزًا فى النصف الشمالى من كوكبنا الأرضى، وتمتلك مساحة شاسعة من الأراضى التى تبلغ مساحتها نحو عشرة أضعاف مساحة دولة كبيرة كمصر: «٩٦٠٠٠٠٠ كيلومتر مربع»، «نحو ١/ ١٥ من مساحة الكرة الأرضية، و١/٤ مساحة قارة آسيا»، وتمتد حدودها الأرضية لتبلغ ٢٢٠٠٠ كيلومتر، فيما تتماس حدودها مع ١٥ دولة، وتواجه بحريًا ٦ دول عبر البحر. 

وتحوز الصين موارد مائية كبيرة، فهى فضلًا عن الأمطار المتوافرة، تضم نهر «اليانجتشى»، أطول أنهار العالم، و«النهر الأصفر» ونهر «تشو جيانج»، ونهر «هيلون جيانج» وغيرها، ومناخها معتدل عمومًا، وتضم أكثر من خمسين أقلية قومية.

وقد منحت هذه الخصائص الطبيعية الشعب الصينى إمكانات فائقة لبناء حضارة مزدهرة، فى بيئة مستقرة ومناخ معطاء، لكنها ظلت مطمعًا للمتلمظين من خارج الحدود على عطاء الطبيعة السخى لهذه المنطقة المترامية الأطراف من العالم، وللطامعين فيها والطامحين للسيطرة على ثرواتها، ولأنها كانت أكبر سوق مستهلكة فى العالم «٢٥٠ مليون نسمة عام ١٧٥٠، ٣٠٠ مليون عام ١٨٠٠، ٤٣٠ مليونًا عام ١٨٥٠...».

وبالنظر إلى تسلّط حكم إقطاعى متشدد على الشعب الصينى، امتد على مدى قرون طويلة، مُنعت الصين من تطوير أوضاعها الاجتماعية، وأُخضعت لحكم أسر إمبراطورية احتكارية متعاقبة، استولت على فائض إنتاج مئات الملايين من الفلاحين الصينيين، مقابل ما يُبقيهم على قيد الحياة، الأمر الذى أدى، حسب الكاتب الصينى «جين بو» فى مرجعه المهم «قراءة الصين: عن تاريخ ومجتمع وثقافة الصين»، «دار نشر ووتشو، بكين، ٢٠٠٨»، إلى عجز «الاقتصاد الصينى عن النمو بشكل كامل على المدى الطويل، وإلى عدم استخدام رأس المال والتكنولوجيا والموظفين بشكل أفضل، وهو ما مثّل أكبر فرق فى التنمية الاجتماعية مع الدول الغربية»، التى كانت قد دخلت مرحلة الثورة الصناعية، واتجهت إلى البحث بشراهة وشراسة عن مصادر للثروات المدفونة فى باطن أرض القارات البكر الأخرى، خاصة إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وكذلك عن أسواق واسعة ومفتوحة لتصريف فائض إنتاجها الهائل من البضائع، ومن هنا كانت الصين مطمعهم الكبير الذى لا يمكن التهاون فى السعى للسيطرة على مقدراته.

وقد استخدمت الدول الأوروبية فى رحلة استعمارها للصين أحط الأساليب وأكثرها ابتذالًا لإخضاع مئات الملايين من الصينيين: السلاح والقوة، الإفساد والرشوة.. ولكن أشد الأسلحة دناءة كان إغراق الشعب الصينى فى مستنقع إدمان الأفيون، وفى عام ١٨٣٥ قُدر عدد مدمنى الأفيون المحملة به المراكب الغربية بنحو مائتى مليون صينى، من أصل تعداد قدره حوالى أربعمائة مليون «٥٠٪»، وخاض الصينيون حروبًا طاحنة لوضع حد لسياسات إغراق الصين بالمخدرات المدمرة، أبرزها «حرب الأفيون الأولى»: ١٨٤٠، و«حرب الأفيون الثانية»: ١٨٥٦، لكن موازين القوى العسكرية، واتحاد دول الغرب الاستعمارى، وتخلُّف البنى العسكرية للنظم الإقطاعية الحاكمة، جعل الفوز دائمًا من نصيب الغرب، الذى كبَّل الصين بمجموعة من المعاهدات والاتفاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية، صادرت قدرة الصين على التقدم، وجعلت من قضية تحرير الإرادة الصينية من قيود الدول الإمبريالية هدف كل جماعة وطنية، وغاية الشعب نفسه، الذى لم يبخل بكل التضحيات من أجل تحقيق هدفه السامى: طرد الاحتلال وتحرير الإرادة.

وبعد معارك طاحنة ومصادمات عنيفة، استطاع «الحزب الشيوعى الصينى»، الذى تأسس فى يوليو ١٩٢١، وتولى «ماو تسى تونج»، أحد مؤسسيه المهمين، موقع زعامته فى يناير عام ١٩٣٥، وعبر مسيرة ملحمية من النضال والتضحيات والتكتيكات الثورية، والأخطاء والنجاحات، للحزب ولـ«جيش التحرير الشعبى»- أن يُحقق فى عام ١٩٤٩ حلم الشعب الصينى فى بناء دولته المحررة المستقلة: «جمهورية الصين الشعبية»، كخطوة أساسية على طريق إنجاز الهدف الأسمى: استعادة المكانة المستحقة للوطن، وإنجاز الحياة الرغيدة لأبناء الشعب الصينى، الذين يتجاوز تعدادهم الآن المليار وأربعمائة مليون نسمة.

وقد بدأت السياسات الاقتصادية الصينية الموسومة بـ«الإصلاح والانفتاح» أو «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية» عام ١٩٧٨، أى بعد إعلان نظام الرئيس «أنور السادات» انتهاج مصر سياسة «الانفتاح الاقتصادى» بأربعة أعوام، وفى هذا المدى الزمنى المحدود، «حوالى أربعة عقود ونصف العقد»، استطاعت الصين أن تنجز مسيرة اقتصادية نوعية بارزة، متقدمة بثبات إلى احتلال موقع الصدارة، وإلى تحقيق أهداف خطة النهوض بالشعب والوطن.

وتشير كل المؤشرات والتقديرات العالمية الراهنة، حتى تلك الصادرة عن جهات «معادية» أو «ليست صديقة»، إلى أن الصين قد استطاعت بمهارة واقتدار تخطى كل العقبات والمصاعب التى واجهتها دول العالم أجمع، كآثار جائحة «كوفيد- ١٩» الكارثية، وتداعيات النتائج السلبية للحرب الروسية الأوكرانية، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية الحادة التى ضربت معظم بلدان العالم بسبب السياسات «النيوليبرالية» المتوحشة، وآثارها المُدَمِّرة المباشرة على المليارات من سكان العالم، وأن الصين مستمرة فى التقدم من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجى العظيم للشعب الصينى المكافح، الذى حدده المؤتمر العشرون للحزب الشيوعى الصينى، والتزم بالوفاء به، هدف: «بناء دولة اشتراكية حديثة قوية، ستنجز على نحو شامل طبقًا للترتيبات الاستراتيجية العامة على خطوتين: 

الأولى: من عام ٢٠٢٠ إلى عام ٢٠٣٥، وسيتحقق فيها التحديث الاشتراكى من حيث الأساس، والثانية: من عام ٢٠٣٥ حتى منتصف القرن الحالى، وسوف ينجز فيها بناء الصين لتصبح دولة اشتراكية حديثة قوية ومزدهرة وديمقراطية ومتحضرة ومتناغمة وجميلة».

خططت الصين، والتزمت بما خططته وتقدمت، فهلا نستفيد من دروس هذه التجربة الناجحة لصالح شعبنا ومواطنينا؟