رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصينيون المحدثون: أفكار وتاملات (1 / 5)


يوشك الحديث بين الناس عن الصين، وتاريخ الصين، وتقدم وتطور وازدهار الصين، أن يكون حديثا عن أناس من كوكب ثان، اجترحوا معجزات لم تخطر على بال بشر، وصنعوا عجائب لم يسبقهم إليها أحد، أو كأنهم أناس من طينة أخرى، اختاروا أن تكون مهمتهم إدهاشنا، ووظيفتهم إشعارنا بالعجز إزاء أفعالهم المذهلة، ما داموا قادرين - فى كل مرة يفتحون أمامنا صندوق عجائبهم التي لا تنقطع - على خطف أبصارنا، على النحو الذي نعرفه جميعا!

المرة الرابعة التي أزور فيها الصين، خلال أقل من عقد واحد من السنين. ثلاث مرات قبل إعصار "كوفيد - 19"، وهذه المرة الأولي بعد أن انتهت الجائحة وذهبت إلى حال سبيلها، تاركة جروحا نافذة في عمق بني  البشر، وأثرا لا يمحي في وعيهم وتجربتهم في الوجود وفي الحياة. 
وفي كل مرة كنت أفتح عينيّ وأشحذ خلايا عقلي، في محاولة - جادة وموضوعية- لفهم ما جرى ويجري على هذه الأرض التي يبدو أنها تغير جلدها يوما بعد يوم، وتكتسي حلة جديدة مع مطلع كل شمس!

* تجربة إنسانية لا شأن لها بالخوارق والمعجزات:
ويكاد المرء وهو يتجول بين ملفات تاريخ هذا البلد العريق، محاولا تلمس أسرار نهضتها، ووضع اليد على عناصر تفوق شعبها الماثل أمامنا، والمتجسد بين أيدينا، ان يكتشف أن سر أسرار "المعجزة الصينية" الكبرى، هو ألا سر في هذا الأمر (الملغز) على الإطلاق!

فهي تجربة إنسانية "مكشوفة"، ودقائقها "عارية" أمام الجميع، وهي مسيرة مرت بكل ما تمر به التجارب الإنسانية من نجاح وفشل، وانتصارات وانكسارات، وتقدم وتراجع، حتى اكتشفت "طريقها الخاص" لتجاوز أوضاعها المتخلفة، وتوصلت إلى معرفة مسارها المميز للانطلاق إلى الأمام، وهو المسار الذي أسمته "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية" وعنها يطول الحديث.

وقد ارتكز استكشاف هذا المسار، والتعرف على شروط النجاح في تحقيق غاياته، على امتلاك ثلاثة عناصر، أو مفاتيح متكاملة، لا غنى عن أي منها، أولها: الشعب، وثانيها: القيادة، وثالثها: برنامج العمل.

أولا: الشعب:
إن التعرف على التاريخ الحقيقي للشعب الصيني، بسيكولوجيته الخاصة، وتكوينه الفكري والثقافي المحدد، وحضارته وحكمته الممتدة ذات البعد التاريخي، وعلى تراثه الروحي الخاص المستمد، في جانب أساسي منه، من الأفكار "الكونفوشيوسية"، كان معينا لا ينضب لوضع اليد على عناصر القوة الراسخة في أعماقه، والتي غطتها قرون الفقر، والمهانة، والاستعمار، والاستبداد الأجنبي والمحلي... إلخ.

فالصين الحديثة حينما تأهبت لاستئناف رحلتها الحضارية مجددا، لم تطرح عن كاهلها جملة ميراث الأجداد وإنجازاتهم، بحجة واهية يرددها البعض عن وجوب إحداث "قطيعة معرفية" شاملة، باتة وناجزة، مع الماضي المنقضي، بخيره وشره، بحجة فساده كلية، وعدم جدوى الالتفات إليه لعطب الأسس التي نهض عليها!

ولكن الصين إذ تنكرت لهذا المذهب، لم تذهب المذهب المضاد أيضا، فهي لم تمجد الماضي بعبله، ولم تأخذه بقضه وقضيضه، أو تنظر إليه بعين التقديس الكليلة، وإنما نظرت إلى معطيات الماضي نظرة نقدية عميقة وفاحصة، واستنقذت منه ما يفيد في مسيرة حاضرها الجديد، ونبذت منه ما يدعو إلى العودة إلي ماض ولى وانقضى، وغابر عبر التاريخ الإنساني وانتهى ولن يعود، واستخرجت من مناجم تاريخها التليد الدفينة قيما صالحة للعصر ومهامه الشاقة، مثل قيم الاجتهاد في العمل، واحترام التضحية من أجل الصالح العام، ومد اليد لمساندة الآخرين، والفخر بالانتماء للأسرة والجماعة، وتقدير العمل الإنساني وكسب القوت بالجهد والكدح، وتكريم العطاء والبذل من أجل المجموع، والدأب والإصرار على النجاح واستكمال الطريق، وروح العطاء والغيرية، وغيرها من القيم الإنسانية النبيلة، الصالحة لكل زمان ومكان.

وقد طورت الصين هذه المجموعة من القيم الموروثة، وشذبتها، وهذبتها، حتى حولتها إلي ما يشبه مجموعة المبادئ الكبري الملزمة للمواطنين، والمبادئ اللازمة لاستنهاض همتهم، وتوحيد إرادتهم، وإن الشعارات الموحدة من أجل تحقيق حلم "النهضة العظيمة للأمة الصينية"، الذي هو "أعظم حلم للأمة الصينية منذ العصر الحديث"، إن"حلم الصين هو في الواقع حلم الشعب، ومن أجل تحقيقه يجب الاعتماد على الشعب بشكل وثيق ليعود الخير باضطراد"، على حد تعبير الرئيس الصيني "شي جين بينج".