رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف نرتقى؟


لا شىء يدعو مجتمعات كوكب الأرض للتباهى والشعور بالفخر والتميز، لا شىء يرتقى بأحوالها، وينظف أخلاقها، وينهض بعقولها، إلا احتفاءها بالشخصيات المبدعة لتعتلى حصريًا أعلى تمجيد.
وأصحاب الإبداع عملات نادرة لابد لأى مجتمع لديه رغبة فى التغير إلى الأفضل أن يكفل لهم حرية التعبير، ولا يتم المساس بها تحت أى مُسمى، حتى يواصلوا مهمتهم التاريخية، وتوفير كل الخدمات والضمانات لكى تواصل مهمتها التاريخية.
تتعدد الشخصيات المبدعة لكن الجوهر واحد، وهو القدرة على رؤية المعتاد بعين غير اعتيادية، والاحتفاظ بالتفرد الذاتى، والقلب الطفولى المحمل بالدهشة والبساطة والعفوية، وعدم المساومة على الحرية الفكرية والشخصية، والتخيل بلا حدود وقيود، مع عدم توقف التساؤل، وأحداث الصدمات للسائد، وازدراء المحظورات الموروثة، وعدم القناعة والرضا بواقع الأشياء.
هذا الجوهر المشترك للعملية الإبداعية هو ما يجعل الإبداع هو كبرى الفضائل الممكنة، وقمة النبل الأخلاقى، لكن مجتمعاتنا تخاف من حرية الإبداع، وتحاول أن تقيده وتحد من انطلاقه.
وأكبر قيد على الإبداع هو الرقابة بأشكالها المتعددة، وهذه الرقابة هى "وصاية" على ما ينتجه العقل المبدع فى مجالاته المختلفة، الوصاية على الإبداع واتهامه إرث قديم تبدأ بافتراض أنها الطرف الأعلى، وأصحاب الإبداع هم الطرف الأدنى، الوصاية تستغل الأوتار الحساسة لدى الشعب، وهى حماية الفضيلة والقيم الدينية والعادات والتقاليد والمسلمات والموروثات والأسرة وسُمعة الوطن.
لا أحد لديه الحق فى أن يحدد للناس ما يقرأونه، وما يسمعونه، وما يشاهدونه، إن الشعب ليس طفلًا قاصرًا، وليس فى عُهدة أحد، والوطن وطن، وليس مركز أحداث، شعاره الوطن تهذيب وإصلاح.
وبالنسبة إلى مصر فلا يمكن للشعب الضارب فى جذور التاريخ الذى ينتج، ويحارب، ويبنى، ويعمر، ويقاوم الإرهاب أن يكون عاجزًا عن التمييز، الشعب الذى هزم الإخوان المسلمين وخرج بالملايين لتحرير الوطن، لا يُعقل أن يكون عاجزًا عن تذوق الفنون.
هكذا ترتقى البشرية، هكذا يصبح الإبداع بكل أشكاله قاطرة أساسية نحو التقدم والحرية، الإبداع لا يعرف قواعد، ولا يؤمن بالأشكال والمضامين المحددة، الإبداع فى جوهره صرخة تمرد، ولا يقبل بأى سلطة.
إن حرية الإبداع مثل الصهيل للخيل، لكنهم يريدون خيولًا لا تصهل، لا سلطة دينية، ولا سلطة ثقافية، ولا سلطة أخلاقية، ولا سلطة نقدية لها حُكم على الإبداع.
للإبداع والفنون حرية التحليق، وإلا لماذا نردد دائمًا أن مصر بفضل قوتها الناعمة هى الرائدة فى منطقتها.
لا أدرى كيف يمكن لخيال أو رؤية فنية فى فيلم، أو رواية، أو قصيدة، أو حلم فى لوحة تشكيلية، أن يسىء إلى الدين والأخلاق والتقاليد وسُمعة الوطن، إلا إذا كان الدين والأخلاق والتقاليد وسُمعة الوطن ديكورًا من ورق.
إن الإبداع الذى لا يصدم شيئًا ليس إبداعًا، هو تسلية، تعيد إنتاج الواقع بأمراضه وعيوبه وتناقضاته.
ليس الإبداع إخفاء للقاذورات تحت السجادة وبئر السلم، لكنه تعريتها لتنظيف البيت وتطهيره، وليس تسترًا على أعراض المرض، بل كشفها لكى يتم العلاج السليم ويتحقق الشفاء والصحة.
إن الإبداع مرآة فاضحة للتناقضات، وصوت ضد ثقافة الستر، ورؤية تحتج على الواقع الكاذب الخادع والمخدوع، ومواجهة لأعراض المرض.
ولهذا فإن المبدعات والمبدعين فى أى مجال هم أكثر حبًا للوطن وللإنسانية، فهم بإبداعاتهم يكتشفون الطريق نحو المزيد من النظافة والشجاعة والاتساق مع الذات، تقديم المتعة مع جرأة اقتحام المحظورات هو تحد كبير للعقول المبدعة.
أتخيل لو مثلًا منذ ثلاثينيات القرن الماضى كنا نشاهد أفلامًا سينمائية تقدم لنا التحدى الأكبر، والسهل الممتنع، أى المتعة مع التمرد لأصبح لدينا الآن رأى عام شعبى مستنير يقف لجانب الحرية والعدالة، لكن بكل أسف هذا لم يتحقق ليس فقط بسبب وجود الرقابة المرتعشة، ولكن لأن هناك مبدعات ومبدعين لديهم المواهبة دون رؤية التغيير.
افتحوا كل الأبواب لحرية التعبير لكل منْ لديه الموهبة ورؤية التغيير، أعطوا مصر فرصًا حقيقية لكى تستفيد من مواهبها فى كل مجال، لا تراقبوا الإبداع، راقبوا الإرهاب الدينى والفكرى، لأن هذا هو العدو الحقيقى لمصر ولشعبها.
لا تسمحوا للمعقدين نفسيًا وثقافيًا وإنسانيًا أن يمنعوا مصر من استنشاق الهواء النقى، وأن يحبسونا فى زنازين الخوف والرجوع إلى الوراء.
فى هذه الفترة ازداد الهجوم على أهل الإبداع والفن من قبل المتاجرين بالأديان وأبواق الخلافة الإسلامية وجنود الدولة الدينية، هم يعلمون تمامًا أن ازدهار الإبداع والفن سيقضى عليهم، ويقلل من تسلطهم على المجتمع، وبالفعل نجحوا فى تقليص سقف الحريات والطموحات للإبداع والفن. 
سوف يحاكمنا التاريخ فى يوم ما على أننا استمعنا لهؤلاء المرتزقة النصابين كارهى الحياة والنساء والحرية والإبداع.

من بستان قصائدى 
قلبى "وردة" 
تخاف الذبول
فهى لا ترتوى 
إلا بماء الورد وماء الزهر
وليس حولها 
إلا ماء الحقد وماء الشر