رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تمرد قوات فاجنر.. وما يحمله من أسئلة المصير

بعد أيام من الإنهاء الافتراضى لأزمة تمرد قوات «فاجنر»، وانتقال قائدها «يفجينى بريجوجين» إلى بيلاروسيا فى تسوية يشوبها كثير من الغموض. ما زالت مساحات الأسئلة أكبر كثيرًا مما تكشف عن حقيقة ما جرى، وامتدت التساؤلات إلى المستقبل، فيما يمكن توقعه من مؤثرات فى جبهات القتال على الجانبين الروسى والأوكرانى. الداخل الروسى؛ رغم ما حاول أن يبديه من تماسك، أمام فداحة ما جرى، وحبس أنفاسه طوال ساعات «السبت العصيب» وهو يرقب الدراما العنيفة، التى حملت تهديدًا للعاصمة موسكو بقوات عسكرية روسية وصفها الرئيس بوتين بالخيانة و«الطعنة فى الظهر». استدعت ذاكرته تلقائيًا ما تعرض له جورباتشوف من محاولة انقلاب، قام بها المتشددون السوفييت عام ١٩٩١ وأنقذه منها انتصار بوريس يلتسن قبل أن يدرك الجميع أن رحيل آخر رئيس للاتحاد السوفيتى كان مجرد مسألة وقت.

هناك بعض الإجابات التى تكشفت لاحقًا، عن سؤال كبير تعلق بغياب كل من سيرجى شويجو، وزير الدفاع الروسى، وفاليرى جيراسيموف، رئيس الأركان العامة، عن مسرح أحداث السبت بعد إعلان استيلاء قوات فاجنر على مدينة «روستوف» ووقوف يفجينى بريجوجين داخل مقر القيادة العسكرية بالمدينة، لالتقاط الصور وبث المقاطع التى تحدث فيها عن ما أسماها «مسيرة من أجل العدالة». بعد ساعات قليلة من هذا المشهد قام جهاز الأمن الروسى «FSB» بوضع منطقة موسكو بأكملها، فى حالة تأهب بموجب نظام «عمليات مكافحة الإرهاب» وهو إجراء صارم يخول للأمن الروسى القيام بإجراءات استثنائية واسعة بحق الأفراد والمركبات والمقار السكنية والمبانى بشكل عام. فى هذا الوقت انصرف الرئيس بوتين لترميم الهزة المفاجئة التى تعرضت لها مكانته السياسية، فيما بدا أن القادة العسكريين الكبار للجيش كانوا فى مهمة أخرى لها علاقة بأوضاع الجبهات داخل أوكرانيا. فرغم الاتهامات التى وجهت إليهم بقصف معسكرات لفاجنر مما تسبب فى مقتل عدد كبير من مقاتليها، وادعاء بريجوجين أن هذا كان بأوامر مباشرة من رئاسة الأركان العامة، إلا أن هؤلاء القادة مارسوا طوال أحداث ما سمى بـ«التمرد المسلح»- بحسب وصف النائب العام الروسى- أكبر درجات ضبط النفس رغم تكبد قوات الجيش خسائر عرضية فى الأثناء، تمثلت فى إسقاط قوات فاجنر عددًا من المروحيات بها طيارون روس، على ما يبدو كانوا فى مهام تتعلق بمراقبة تقدم قوات فاجنر تجاه العاصمة على الطريق السريع «M ٤» الممتد من روستوف إلى موسكو. 

يمكن تصور أن القيادة العليا للجيش الروسى أدارت اليوم العصيب باعتبار أن نهاية وشيكة لأسطورة «قوات فاجنر» على ساحات القتال كانت قد بدأت بالفعل، أى كان حجم الدور الذى لعبته فى صنع تلك النهاية. لذلك جاء قرارها التكتيكى بعدم الاشتباك مع قوات فاجنر، بل وربما إفساح المجال أمام تهور قائدها بريجوجين، كى تتمثل خطيئته كاملة الأبعاد أمام الكرملين ومن خلفه الرأى العام الروسى، الذى ذهب قطاع كبير منه إلى تأييد حالة الهوس والانفلات التى ظل بريجوجين يروجها طوال شهور مضت. لذلك ففى الوقت الذى كان الكرملين ممثلًا فى الرئيس بوتين يدير مع حليفه البيلاروسى، عملية إخراج مشهد النهاية وبنود تسويته على الوضع الذى يحفظ لنظام الحكم الروسى هيبته، أو القدر الذى تبقى منه على الأقل. انصرف الاهتمام العسكرى لقادة الجيش الروسى إلى خطوط القتال على الجبهات المفتوحة، كى يحرموا الهجوم المضاد الأوكرانى من الاستفادة من هذا المشهد المفاجئ بأى صورة، ورغم توالى الانسحابات التى قامت بها قوات فاجنر من مناطق، كانت تتمركز فيها وتسيطر عليها قبل أحداث السبت أشهرها مدينة «باخموت» ومحيطها، إلا أن حصاد الجهد العسكرى للأيام التى تلت هذا اليوم الاستثنائى، تشى بمفاجأة نجاح قوات الجيش الروسى فى المهمة التى انصب تركيز قيادة الجيش ورئاسة الأركان العامة فى إنجازها. 

ففى الوقت الذى اعتبرت فيه كييف أن تمرد قوات فاجنر؛ يعد فرصة ذهبية لتطوير الهجوم المضاد فى ظل انشغال الجيش الروسى بالأحداث الداخلية، أثبتت وقائع الميدان شدة التحصينات التى تتمتع بها الدفاعات الروسية فى مختلف جبهات الحرب. فمما ذكرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية؛ أنه لم تكن هناك ثغرات فى الدفاعات الروسية أمكن للقوات الأوكرانية استغلالها، فى الوقت الذى تأكد فيه أن أيًا من وحدات الجيش الروسى لم تغادر مواقعها فى الجنوب أو الشرق، طوال ساعات تمرد قوات فاجنر وما تلاها من أيام. كما رصد أيضًا على طول الجبهات أن الجيش الروسى لم يبطئ وتيرة القتال المعتادة، بل حرص على إطلاق ما يتجاوز ٥٠ صاروخًا على أوكرانيا خلال يومى السبت والأحد، مما جعل وزير الدفاع الأوكرانى أليكسى ريزنيكوف يعترف مؤخرًا بأن توقعات الهجوم المضاد قد تكون مبالغًا فيها، فسير المعارك معقد فى أكثر من منطقة والدفاعات الروسية ما زالت قوية للغاية. هذه الحصيلة من التعثر والإخفاق فى تطوير الهجوم المضاد، واعتراف أكثر من قيادة غربية من الداعمين لأوكرانيا بأن كييف «متأخرة» فى الجدول الزمنى للهجوم، يصب بالضرورة فى صالح القيادة العسكرية الروسية ويمثل بارقة لتصحيح كبير سيكون هناك ما بعده، خاصة مع التجربة الملتبسة لإشراك قوات فاجنر فى القتال وما صاحبها من جدل وصخب واسع كان الجيش الروسى أول من يحمل عبئه.

هذا عن القيادة العسكرية العليا، وهى غير بعيدة بالطبع عن صناعة السياسة الروسية، لكن يبقى الأهم الرئيس بوتين ودائرة الحكم بداخل الكرملين؛ فالثابت حتى اللحظة أنهم المتضرر الأكبر مما جرى. هناك تساؤل ضمن عشرات غيره حول الاستخبارات الروسية هل علمت مسبقًا بالاستعدادات للتمرد، ومتى أبلغت الرئيس بوتين بما لديها حتى يبدو متفاجئًا على هذا النحو فى كلمته التى وجهها للشعب الروسى. وكيف سمحت دائرة الحكم بأن تكون خيارات الرئيس محدودة وضيقة، فى التعامل مع الأزمة، لحد اضطراره إلى الاعتماد على الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو، كى يدير التفاوض ويقبل بالشروط المذلة لتمرير إنهاء بريجوجين هذا المشهد، فيما بدا أنه غير مهدد إلا لسلطة ومكانة فلاديمير بوتين بشخصه. لذلك يتصور أن الأضواء لم تطفأ فى الكرملين، منذ السبت الماضى حتى يصل الرئيس الروسى إلى إجابات عن تلك الأسئلة الوجودية لمنظومة حكمه وإدارته، لا سيما وهناك إجراءات ضرورية يجرى الإعداد لتنفيذها فى روسيا وفى بيلاروسيا. فكلمة النهاية التى لم تكتب بعد تطارد الكثيرين، كالشبح الماثل أمام من بالقصر بما فيهم الرئيس نفسه، أنهم ربما يواجهون ما يمكن اعتباره مسألة وقت.