رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أنفاق الحرب الدينية فى فلسطين

هل يزايد رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو على أعضاء حكومته، وعلى التيارات اليمينية الداعمة لمكونات ائتلافه الحاكم، بتلك الخطوة الاستعراضية التى قام بها هذا الأسبوع، عبر سماحه بعقد الحكومة اجتماعها الأسبوعى داخل أنفاق ساحة البراق فى القدس الشرقية المحتلة، بمناسبة ذكرى احتلال مدينة القدس قبل ٥٦ عامًا؟، ربما يكون هذا دافعًا رئيسيًا، لكنه ضمن دوافع أخرى عديدة لا شك، فهو بداية، وفق الرواية الإسرائيلية، يتحدث عن الذكرى باعتبارها تحمل تاريخ «توحيد المدينة» لتصبح العاصمة الأبدية والموحدة للدولة اليهودية. واليهودية معلوم أنها ديانة، لكنها صُكت كمصطلح سياسى على ألسنة الساسة الإسرائيليين منذ نحو عِقد أو يزيد، باعتبارها عنوانًا مرادفًا للدولة الإسرائيلية التى جرى الاعتراف الدولى بها بقرار التقسيم الصادر ١٩٤٧، أو بات بديلًا لها فى الخطاب المتنامى بين غالبية الإسرائيليين.

قرارات الشرعية الدولية ما زالت حتى اللحظة؛ تناقض هذا الزعم الإسرائيلى، ناهيك عن وقائع التاريخ الذى لم ينس حتى الآن. لذلك تظل إسرائيل وستظل يطلق عليها دولة احتلال، طالما بقيت هناك أراض فلسطينية وفق أوضاع الرابع من يونيو ١٩٦٧، تحت أى من أشكال الاحتلال الإسرائيلى أو الانتهاك الاستيطانى، وقبلهما العبث بمصير وأوضاع القدس الشرقية التى جرى احتلالها فى تاريخ تلك الذكرى المحتفى بها. انتشاء وابتسامات رئيس الوزراء الإسرائيلى وهو يلتقط الصور التذكارية داخل أنفاق الأقصى، وحديثه عن المعركة التى يخوضها من أجل توحيد القدس، لا يعدو كونه مشهدًا ضمن إجراءات فرض الأمر الواقع، حتى إن بنيامين نتنياهو لم يستطع إغفال أو عبور التصدى للضغوط الغربية، باعتبارها أحد خصومه فى معركته المزعومة. فهذا الواقع حقيقة على الأرض لا يحمل سوى مزيد من إفساح المجال لتغول وانتهاك المستوطنين، لحقوق ثابتة للمواطنين الفلسطينيين من أهل القدس وغيرهم. الحكومة الإسرائيلية الحالية؛ باتت لا تخجل من مداراة «الأبارتيد» الذى مارسته الحكومات السابقة على استحياء، فهى اليوم تعتمد من السياسات ما يدعو جمهورها إلى المزايدة عليها، كونها تسير بنهج الفصل والتطهير «العنصرى» والدينى المعلن وهو مستهدفها الرئيسى، خاصة فيما يتعلق بالقدس لرمزيتها بالطبع.

المنظومة الإسرائيلية تعمل وفق ما تكشفه الأحداث، بتناسق متناغم من أجل تحقيق أهداف «معلنة». قبيل الاجتماع، اقتحم الوزير «إيتمار بن غفير» ساحة المسجد الأقصى وصرح بأن جبل الهيكل يقصد الحرم القدسى الشريف- سيبقى تحت السيادة الإسرائيلية إلى الأبد. وفى الاجتماع الوزارى صدقت الحكومة الإسرائيلية على اعتماد إضافى هذ العام ١٧ مليون دولار، إلى ميزانية حفر الأنفاق تحت حائط البراق والبلدة القديمة، فيما تعتزم التصديق على سلسلة أخرى من القرارات والمشاريع، حسبما قرره نتنياهو هدفها تشجيع الشبان اليهود على الانتقال للعيش فى مدينة القدس. هذه المشاريع الاستيطانية تمثل الوعود الانتخابية التى أقرها نتنياهو سلفًا، أمام مكونات تحالفه الحكومى كى يضمن موافقتهم للانضمام إليه، وهم مجموعة من أحزاب أقصى اليمين الذين لن يتنازلوا عن تحقيقها واستصدار القرارات الحكومية بشأنها. ونموذج «الحرس الوطنى» المسلح الذى انتزعه بن غفير من الحكومة، شاهدًا على أداء وزارى لن يتراجع مستقبلًا، بل بات متعايشًا مع الانتقادات الدولية والإقليمية، التى كانت تمثل رادعًا من قبل. مثلما الحال مع الوزير بتسلئيل سموتريتش عندما نفى وجود الأردن كمشرف على المسجد الأقصى، بل أنكر وجود المملكة الأردنية كدولة من الأساس، فى واقعة الخريطة التى نشرها أثناء حديثه فى باريس منكرًا وجود ما يسمى بـ«الشعب الفلسطينى»، واصفًا إياه بالاختراع التاريخى الذى لم يتجاوز مائة عام!

المشاريع الاستيطانية التى تخص مدينة القدس وحدها وأشار لها رئيس الوزراء الإسرائيلى دون تسميتها، تتبناها حكومته ولن تقبل أن تمضى مدتها فى الحكم دون إنجازها، رغم ما تتسم به من خطورة ولها طابع تصادمى واضح يشكل «عملية تهويد» متكاملة، بالنظر إلى مكونات تلك المشاريع. فهناك خطة «تهجير قسرى» فى المناطق الشرقية والغربية من حى «الشيخ جراح»، الذى سبق وأشعل مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين والسلطات الإسرائيلية مايو ٢٠٢١، عندما اعتزمت الأخيرة إخلاء «٧ أسر فلسطينية» من منازلهم وإحلال مستوطنين إسرائيليين مكانهم. لاحقًا تراجعت الحكومة الإسرائيلية عن تنفيذ القرار الإدارى وقامت بإرجائه وليس إلغاءه، بعد اندلاع مواجهات دامية أسفرت عن إصابة أكثر من ٣٠٠ فلسطينى من الحى، ومن مناطق البلدة القديمة فى القدس. وهناك فى القرارات الجديدة إحياء لمخطط اقتلاع سكانى مماثل يخص ست مناطق فى بلدة «سلوان»، التى يطلق عليها الحامية الجنوبية للقدس الشرقية والمسجد الأقصى، بالنظر إلى موقعها الجغرافى الملاصق لأسوار البلدة القديمة من الجنوب. ومن أجل وضع مرجعية دينية إسرائيلية تبرر إجراءات ابتلاع مدينة سلوان، تم استحداث مسوغ تاريخى من خلال جمعية «إلعاد» الاستيطانية له علاقة بآثار لـ«مدينة الملك داوود»، من أجل ربطها بالتاريخ اليهودى التوراتى للمنطقة، ليتأسس عليه حاضر الاستيطان فى سلوان.

لم تقف الخطة عند حدود المناطق الرئيسية من القدس الشرقية، فهناك مشاريع استيطانية أخرى لا تقل خطورة، منها «الحدائق التوراتية» المزمع إنشاؤها فى حى «البستان»، والجسر الخشبى والتلفريك فى منطقة «وادى الربابة»، وشبكة الأنفاق التى بدأ العمل عليها فى «وادى حلوة»، ومشروع «وادى السليكون» فى منطقة «وادى الجوز»، وغيرها من مشروعات التهويد المؤجلة. الحكومة الحالية تستهدف بشكل سافر إحداث اختراق مؤثر للمناطق العربية بالقدس الشرقية، كى تصل بها لمرحلة تقطيع الأوصال على شاكلة ما جرى فى الضفة الغربية منذ توقيع اتفاق أوسلو، ليصبح مشهد الحل النهائى على الأرض ضربًا من الخيال. فلا توجد أراض فلسطينية قابلة لتنفيذه، وكى لا يكون هناك فى الواقع ما يعبر عن المسميات الموجودة بنصوص قرارات الشرعية الدولية. المثال مصطلح «القدس الشرقية» التى تقلصت سابقًا، وصارت اليوم مستهدفة على هذا النحو الخطير من الحكومة الإسرائيلية، بدفعها المشهد برمته إلى «حرب دينية» لا محالة، فهى من خلال عقيدتها تؤمن بذلك، ويبدو أنها تتعجلها بعدمية تحسد عليها. فالفلسطينيون رغم اختلال موازين القوة وآخرين فى الإقليم والعالم، لن يقفوا مكتوفى الأيدى، أمام هذا الأداء الإسرائيلى الذى يمضى بتهور غير محسوب!