رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«فاجنر» الروسية.. وموقعها مما يجرى فى السودان

جاء تصريح وزير الخارجية الروسى «سيرجى لافروف»؛ بأن من حق السودان الاستعانة بخدمات قوات «فاجنر» الخاصة، ليقطع الشك باليقين حول تواجد تلك المجموعة العسكرية المثيرة للجدل وللقلق على الأراضى السودانية، وأنها بصورة أو بأخرى لها موطئ قدم فيما يجرى على أرض السودان منذ اثنى عشر يومًا من القتال. تصريح الوزير الروسى جاء الثلاثاء الماضى فى مقر الأمم المتحدة خلال مؤتمر صحفى، ويبدو أن مكان التصريح وتوقيته مقصودان من الجانب الروسى، بحيث يجرى بثه على كل وسائل الإعلام قبيل ساعات من الجلسة المقررة لبحث تطورات وتداعيات المشهد السودانى، فى مجلس الأمن.

يأتى هذا المتغير الجديد متمثلًا فى «الاعتراف الروسى» ربما لينقل المشهد السودانى المضطرب، إلى خطوة متقدمة أكثر وضوحًا عن طبيعة الصراع فى السودان ومسبباته الحقيقية، وقد يساعد أيضًا من يبحث عن مخارج برسم الصورة الواقعية لما يجرى ومن يقف وراءه. فالثابت أن هناك فى خلفية المشهد السودانى من قبل اندلاع القتال فى ١٥ أبريل، صراعًا شرسًا يدور منذ شهور بين الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة والتواجد الروسى، حيث تمدد الأخير فى دول إفريقية عدة من بينها السودان وليبيا وإفريقيا الوسطى وموزمبيق ومالى وغيرها من دول الساحل والصحراء. وليس خافيًا أن قرارًا أمريكيًا اتُخذ ربما منذ بداية هذا العام أو قبله بقليل، بملاحقة هذا النفوذ الروسى فى محاولة لتقويضه وانتزاعه من تلك المناطق، العامرة بالثروات، والمنتجة لمساحات من النفوذ والتأثير على المصالح، ما جعل واشنطن تدرك أهمية التقدم على عجل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه. هذا يفسر الانخراط الأمريكى المكثف فى عملية التسوية السياسية بالسودان، قبيل تعثرها الأخير واندلاع هذا التمرد المسلح من قِبل قوات الدعم السريع، وقد وصف هذا الانخراط الأمريكى فى الكتابات الأمريكية باعتباره جزءًا من سياق أوسع، له علاقة بترتيب جديد شامل للقرن الإفريقى الكبير وضمنه الحالة السودانية.

روسيا وبهدوء ودأب خلال السنوات التى سبقت الحرب فى أوكرانيا، سعت ونجحت فى إزاحة الكثير من النفوذ الغربى التقليدى من داخل بلدان إفريقية، منها ما هو فى إقليم الساحل والصحراء كمالى وتشاد وبوركينافاسو، حيث تمكنت مؤخرًا من خلع التواجد الفرنسى التاريخى المستقر، وتقدمت كبديل حاز ثقة السلطات وشبه السلطة فى تلك البلدان بشكل رسمى وغير رسمى بحسب المطلوب. وليس بعيدًا عن تلك البلدان استحواذها وتغلغلها فى إفريقيا الوسطى، ولذلك لم تكن السودان بعيدة عن تلك الدوائر بالنظر إلى ثرواتها المعدنية وتحديدًا اليورانيوم والذهب وموارد الطاقة، فضلًا عن الإمكانات الزراعية الهائلة. تلك الثروات من وجهة النظر الروسية ووفق عقيدتها المعتمدة فى تلك البلدان وغيرها، تلزمها قوة حماية «غير رسمية» يمكنها أيضًا أن تنخرط فى استثمارها وتنميتها وتسييل عوائدها، وهنا تبرز شركة فاجنر الجاهزة والمؤهلة للعب هذا الدور حتى ولو بعيدًا عن أجهزة الدولة المركزية، وهو بالضبط ما يجرى تطبيقه فى السودان. فالتقارير التى تناولت حجم الاستحواذ من قِبل «الدعم السريع» لتلك الثروات السودانية وشبكات ارتباطها بخارج السودان، لم يخل أى منها من ذكر «قوات فاجنر» باعتبارها شريكًا بالحماية، وفيما بعد الصراع الأخير تبين أن الأمر ممتد ربما لما هو أبعد من ذلك.

اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية فى فبراير ٢٠٢٢، أتى بحالة واسعة من الزخم وشغل الأنظار بقوة خاصة ما جرى فى بداياتها، لكن ما تم تسجيله وضاع فى زحام المتغيرات الكبيرة التى صاحبت أحداث الحرب، أن قائد الدعم السريع حمدان دقلو كان هو الزائر الأخير لموسكو فى النصف الأخير من ذات الشهر فبراير، لمدة ثمانية أيام كاملة وأُثير جدل واسع وقتها عن إمكانية منح موسكو قاعدة عسكرية فى ميناء بورتسودان. هذه الخطوة تعثرت لأسباب عديدة، لكن الأهم أن زيارة الأيام الثمانية أنجزت تعاونًا وثيقًا ما بين قائد الدعم السريع وقيادة «قوات فاجنر»، كل المتغيرات التى جرت بعد ذلك تشير إلى أن طبيعة التعاون بين الجانبين، كانت ذات طبيعة استثمارية أكثر منها عسكرية أو أمنية، كما هو مشهور عن نشاط شركة فاجنر، فعلاقة قيادات الدعم السريع بمجال الاستثمار فى المجال التعدينى كانت قد تطورت، للحد الذى بات يلزمه شريك دولي قادر على تطويره وفتح المجال أمام حصد مزيد من المكاسب، فضلًا عن تأمين هذا النشاط بالضرورة. «يفجينى بريغوجين»، مالك ومؤسس شركة فاجنر، يملك أيضًا مجموعة «M Invest» التى لها حصة حاكمة فى شركة «Meroe Gold» ثالث أكبر شركة إنتاج ذهب فى جنوب إفريقيا، وهناك العديد من التقارير التى وثقت انخراط هذا التحالف فى نشاط تعاونى مع الدعم السريع بداخل السودان.

أشهر التحقيقات التى تناولت هذا الأمر استندت على صور تتبع جوى، لأكثر من ١٥ رحلة جوية عسكرية من السودان إلى روسيا عبر مدينة اللاذقية السورية وجمهورية إفريقيا الوسطى. هذه الرحلات سمحت بنقل سبائك ذهب تراوحت قيمتها بنحو مليارى دولار على امتداد ثمانية عشر شهرًا، المثير أن هذا النشاط وعوائده لم يدخل لخزائن الدولة السودانية، بل كان يستند لعقود امتياز تحصّل عليها قائد الدعم السريع من الرئيس السابق عمر البشير، ولم تلغ تلك الامتيازات باستغلال مناجم الذهب وغيرها من المعادن برحيل النظام، بل استغل حمدان دقلو موقعه كنائب لرئيس مجلس السيادة فى تجديد عقود الامتياز لتصبح ملكية خالصة للدعم السريع، مكتفيًا بتسديد رسوم زهيدة سنويًا لا تذكر للدولة السودانية. مصالح شركة فاجنر فى هذا المجال التعدينى المرتبط بمناجم الذهب فى داخل السودان وحولها، ستجعلها طوال الوقت حليفًا استراتيجيًا لحمدان دقلو ومنظومته العائلية القائمة على هذا الأمر، ولا يتصور أنها ستسمح بهزيمته أو انكساره، فهذا يهدم شبكة واسعة من المصالح أو يهددها على الأقل، وهو من غير المسموح به. فى ظل شراسة وتغول الشركة العسكرية الخاصة بعد دورها فى الحرب الأوكرانية، التى أمدتها بقوة ومساحات نفوذ باتت تفتح لها قدرات الدولة الروسية فى إفريقيا وغيرها، لن يكون من الصعب عليها التأثير وعلى نحو بالغ فى مسار الصراع الدائر الآن فى السودان، فالبيئة والمناخ العام وخلفية المصالح ذات الارتباط هى خلطة متكاملة، تجيد فاجنر التعامل والتفاعل معها فى السودان وفى غيرها من الساحات المشابهة.