رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثقافة والرئاسة


فى خضم الاستعداد للانتخابات الرئاسية سألنى أكثر من صديق صحفى عما أود أن يحققه الرئيس المقبل فى الثقافة. وفى معظم الإجابات كنت أنادى بوقف سجن الكتاب، لأن ذلك أصبح شيئا مخزيا، وإلغاء كل أنواع الرقابة على جميع أشكال الإبداع والفكر،

واستمرار الدولة فى دعم الكتاب ليصل لمستحقيه بسعر رخيص، والأهم وضع ميزانية وبرنامج وزارة الثقافة تحت أعين مؤتمر سنوى للمثقفين يقررون فيه خطة الوزارة وأوجه إنفاق أموالها. فى كل مرة كنت أكرر وأؤكد للأصدقاء أن حديثى هذا ليس موجها لأحد من المرشحين للرئاسة وذلك لاعتقادى العميق أنه لم يكن لدى أى رئيس ولن يكون لدى أحد منهم وقت أو قدرة للاهتمام بالثقافة أصلا. واعتقادى أيضا أن الاهتمام بالثقافة جزء من فلسفة الحكم أو الثورة وليس موضوعا قائما بذاته، وعندما تكون فلسفة نظام حاكم الانسياق إلى التبعية الاقتصادية والسياسية فإن ذلك النظام سيعجز عن نشر ثقافة وطنية ديمقراطية. فى عهد عبدالناصر كان محمد عبدالوهاب يغنى «من زراعتنا تقوم صناعتنا.. والخير يبقى خيرين فى إيدينا.. من مدافعنا مصانعنا.. نحرس حرية أراضينا». وكانت تلك الكلمات البسيطة تلخص فلسفة الثورة، ولم يكن لكلمات كتلك أن تظهر إلا فى ظل توجه سياسى يعتمد الاستقلال والتصنيع واستنهاض الزراعة أهدافا له. التغييرات الثقافية المنشودة جزء من التغييرالذى نريد رؤيته فى فلسفة الحكم أولا. الأمر الثانى أننا اعتدنا على تعريف الثقافة إنطلاقا من شق واحد من الثقافة وهو الإبداع الفكرى والروحى وكل ما يتصل بالأدب والموسيقى والرسم والرواية وغير ذلك من تجليات الوعى، أى من «الثقافة الروحية». لكننا لا نضع فى اعتبارنا الشق الثانى أى «الثقافة المادية» التى تغير الواقع ومن ثم تغير الفكر. أقول على سبيل المثال إن بناء السد العالى كان عملا ثقافيا ماديا من الطراز الأول، لأنه أزاح الثقافة القدرية المرتبطة لدى الفلاحين بانتظار المطر وأحل محلها ثقافة أخرى مرتبطة بقدرة الإنسان على التحكم فى الطبيعة. إقامة المصانع كان أيضا «ثقافة مادية» أدت إلى خلق رؤى جديدة وثيقة الصلة بالآلات والمكننة والحداثة. وإذا كانت معارفنا الثقافية عن الطائرة تنتسب إلى مجال الثقافة الفكرية، فإن الطائرة بحد ذاتها وما تؤدى إليه من تغييرات فى الأفكار الخاصة بالزمن والمسافة تنتسب إلى «الثقافة المادية». وكل تغير مادى فى الواقع نحو الأفضل تغير ثقافى. إنطلاقا من هذا المفهوم فإن بناء المزيد من المدارس والجامعات ونشر شاشات السينما فى الريف ومنصات المسرح وقاعات القراءة تغير ثقافى مطلوب. أما الدوران فى دائرة « الثقافة الفكرية « وحدها، وما تحتاجه لتطويرها، فإنه لن يسفر عن شىء كبير. إن التغيير الثقافى الذى نريده من الرئاسة الجديدة تغيير الواقع. وإذا عدنا إلى طه حسين وأدركنا قوله «إن التعليم هو مستقر الثقافة» سنجد أن أولى التغييرات الثقافية المطلوبة هى القفز بالتعليم إلى الأمام. فلا حديث عن الثقافة فى ظل نظام تعليم متدهور،ومن باب أولى فى ظل الأمية. وما يستلزمه تطوير ثقافتنا أكبر بكثير من وقف الرقابة وحبس الكتاب ووضع وزارة الثقافة تحت رقابة المثقفين. الثقافة تبحث عن فلسفة ثورة.