رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

.. وما دام ع الحلم ناوى.. إياهم يدوشوك

فى عام ٢٠٠٠ دعانى الصديق النجم طارق دسوقى إلى زيارة مكتبه فى مدينة نصر.. حيث التقيت صديقه وشريك رحلته السيناريست مصطفى إبراهيم .. كلاهما قرر وقتها تكوين شركة إنتاج فنى.. واختارا لها اسمًا شاعريًا حالمًا مثل طبيعتهما.. «يوتوبيا» وقرر فريق العمل أن يكون أول أعماله بمشاركة مدينة الإنتاج الإعلامى مسلسلًا كتبه محمد عزيز اسمه «الفسطاط».. وتقرر أن يخرجه وفيق وجدى من بطولة النجمة نيرمين الفقى، وأظن أنه كان أول بطولة مطلقة لها.. المهم تم اختيارى لكتابة أغنيات المسلسل.

خرجت من المكتب ومعى معالجة بسيطة للفكرة التى تعود بنا إلى سيرة الحلم الأول لأول عاصمة إسلامية فى إفريقيا.. من خلال فريقين أحدهما يفكر فى المستقبل ويعيش فى معمل الأبحاث يبحث عن ذلك المستقبل، وفريق آخر يشدنا إلى الوراء فى فهم خاطئ لفكرة الدولة الإسلامية أو ما يسمونه الخلافة.. لم يكن الصراع ماديًا بشكل واضح فى حينها، ولم يشأ كاتب السيناريو أن يضع نهاية درامية لفكرته.. هو فى النهاية أراد أن ينتصر للعلم.. فدونه لا يوجد أى مستقبل.

فى صباح اليوم التالى قررت لأول مرة فى حياتى أن أذهب إلى الفسطاط التى كنت أقرأ عنها فى الكتب.. عاصمة عمرو بن العاص.. لم تكن هناك.. هناك فقط بعض روائح للزمن القديم طغت عليه روائح الزبالة ونتانة الجلود القادمة من المدابغ القريبة.. كان سور مجرى العيون مهيبًا.. لكن لم تعد هناك مياه وعيون حتى يكون للسور معنى.

أحزننى حال المكان.. ورحت أفتش عن أسباب التدهور الرهيب الذى حلّ به.. لكننى لم أصل لشىء.. فقط تذكرت هؤلاء البشر الذين يعيشون حياة مزرية لا حياة فيها من الأصل.. وقتها قام زميلى المصور عمر أنس بالتقاط صور لأطفال يلهون فى مقالب الزبالة.. ونسوة يحملن جرار المياه والجراكن المجلوبة من أماكن بعيدة.

مناطق خطرة وعشوائية قاتلة هى كل ما يمكن أن نتذكره من تلك الساعات التى عشتها هناك.. وصوت الصديق المرافق يرن فى أذنى.. «يلا بينا.. لو قعدنا شوية والمغرب دخل هنتقلّب ومش هنروح بيوتنا سالمين».

عدت إلى حجرتى أبحث عن الفسطاط فى خيالى.. بين سطور الكتب التى قرأتها وعن ذلك الحلم الذى يريده أصحاب المسلسل، وكان أن استسلمت للسيناريو المكتوب مكتفيًا به، فالخيال هو الجنة فى هذه الحالة.

وكان أن كتبت «ما دام ع الحلم ناوى.. إياهم يدوشوك.. املا جيوبك غناوى واحلم مهما يحوشوك».

لماذا أعود الآن إلى الفسطاط وما حولها بعد ما يزيد على ٢٠ سنة من زيارتى الوحيدة لها؟.. تذكرت ذلك كله وأنا فى طريقى إلى المقطم للقاء النجم على الحجار فى الاستديو الخاص به.. وأبهرنى ما رأيت بجوارى.. لم يعد المكان الذى زرته من عشرين سنة وخشيت أن أعود إليه مجددًا حتى لا يصيبنى الحزن.

الآن.. وبعد ثلاث سنوات كاملة من العمل الذى لم نلاحظه.. صارت الفسطاط حلمًا..

لم ينته العمل بعد فى تطوير «الفسطاط» وما حولها.. لكنّ جانبًا كبيرًا منها انتهى العمل به بالفعل.. منطقة سور مجرى العيون تبلغ لوحدها نحو ٩٥ فدانًا تتحول إلى منطقة جذب سياحى مختلفة.. وفى القلب منها منطقة سكنية راقية أخذت من روائح الماضى تصميماتها المدهشة.. من بعيد يسحرك شكل المشربيات وألوانها ومثمناتها فى وسط الحدائق والتلال التى تسمح لك بأن ترى الهرم من هناك فيما تحتضنك مئات المآذن من عمرو بن العاص إلى السلطان حسن.

عندما سألت عمن صمم ونفذ هذه العمارات، علمت أنهم شباب معهد الحرف الأثرية بقطاع الآثار الإسلامية والقبطية بوزارة الآثار.. وعرفت أن هذه المنطقة السكنية تضم ٩٠ عمارة ذات طراز معمارى إسلامى يستخدم نفس الحجر المستخدم فى بناء سور مجرى العيون.. ويقال له حجر «النحيت»، العمارة الواحدة أقيمت على مساحة ٦٠٠ م٢ .. كل وحدة شقة، يعنى ١٥٠ مترًا.. العمارة أرضى وستة أدوار.. فيما العمارات التى تطل على السور ثلاثة أدوار وأرضى فقط.

لا يمكن رؤية هذه العمارات بمعزل عن متحف الحضارة.. وبحيرة عين الصيرة.. وما يجرى من عمل وتطوير فى منطقة فم الخليج ومطلع المقطم من ناحية صلاح سالم.. لم نر للأسف من ذلك كله.. من ذلك الحلم سوى ما تردد عن إزالة مقبرة طه حسين وبعض الرموز.. وأتاحت مسألة البطء فى الرد والتوضيح من جانب محافظة القاهرة لمن يريد الدوشة أن يصل إلى مبتغاه، وأن يشيع بين الناس فى ريف مصر وقراها أن العظيم طه حسين الذى علمهم أن التعليم كالماء والهواء والذى حفظوا قصة حياته «الأيام» من كتب مدارسهم ومن أحمد زكى عبر مسلسله الشهير، ها هو يتم إهدار كرامته واسمه وتاريخه من أجل كوبرى جديد كما قيل.

تأخر المسئولون فى محافظة القاهرة كثيرًا لتوضيح الأمر.. حتى صار أقرب إلى الحقيقة فى أذهان الجميع داخل وخارج مصر.. فى الوقت الذى تبنى فيه مصر حضارة جديدة كان يدعو لها طه حسين ومن هم مثله.. فى الوقت الذى يجرى فيه تنفيذ حلم كبير على الأرض فى مناطق القاهرة القديمة التى تحولت من «مستنقع» وبؤر للمجرمين والمحرومين من الحياة فى أحسن الأحوال إلى مزار تاريخى وإنسانى مدهش.. فى الوقت نفسه سمحنا لمن يريد التشويش بأن ينجو بأكذوبته.

القاهرة القديمة التى تنسّمنا تفاصيلها من قصائد فؤاد حداد وأغانى سيد مكاوى ومشربيات أسامة أنور عكاشة.. تعود الآن لتقف على قدميها.. فهل نذهب بأطفالنا ونحن على أعتاب عام دراسى جديد إلى هناك؟.. لماذا لا تتوجه رحلات شبه أسبوعية ولا أقول يومية إلى هناك عبر مراكز الشباب؟.. لا أستعجل الأمر.. لكن الذهاب الآن إلى هناك مشاركة فى البناء ذاته.

لقد حول الأبنودى مشروع السد العالى فى أيامه الأولى إلى حلم يذهب به خيال الجميع من خلال خطاباته.. خطابات حراجى القط إلى زوجته فاطمة عبدالغفار.. وما يحدث على الأرض فى الفسطاط وما يجاورها حلم يستحق أن نفرح به وبالرجال الذين ينجزونه.. فهل نذهب إلى هناك لنمسك أحد أحلامنا الكبرى بأيدينا؟.. هذا ما أظنه واجبًا وضروريًا.