رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أيمن بهجت.. قمر

تابعت مثل الجميع تلك الضجة التى أثارها البعض ضد وزير التربية والتعليم الجديد د. رضا حجازى، لأنه قام بالمشاركة فى تكريم الفنانة لبلبة، لأنها قامت بدور معلمة فى أحد الأعمال الفنية.

لا أستنكف أن يتم تكريم أى فرد من الشعب المصرى فى أى وقت.. وأحترم وجهة نظر من رأى أن الفنانة لبلبة يتم تكريمها فى أهم المهرجانات الفنية- وأن ذلك هو المكان الطبيعى لتكريمها- وأن وزارة التربية والتعليم عليها أن تقوم بتكريم النابغين من معلميها وأساتذتها وطلابها.

ولفت نظرى فى كل ذلك الصخب.. سؤال وجهه أحدهم بشكل عابر: لماذا لا يقوم الوزير بتكريم أيمن بهجت قمر، الشاعر الناجح وكاتب السيناريو والموهوب، الذى ذهب وهو فى الخمسين من عمره ليكمل تعليمه ويحصل على شهادة هو لا يحتاجها قطعًا، ولكن ليضرب لأولاده وأولادنا مثلًا، ويوصل رسالة نحتاجها فى هذه الأيام «المشوشة». قصة أيمن بهجت لا تقف عند حدود ذهابه إلى الكلية مجددًا؛ ليحصل على ورقة يعلقها إلى جوار مئات شهادات التكريم التى حصل عليها لتفوقه فى الطريق الذى اختاره لنفسه منذ سنوات طويلة.. أيمن الصديق والإنسان الذى أعتز بمعرفته وأنه أحد أبناء جيل النابهين قصة نجاح تستحق بالفعل أن نرويها للأجيال الجديدة.. وعلينا أن نفسرها كلما غابت تلك اللحظة التى تحتفى بالعلم والعمل والصبر والإيمان والقدرة على العناد ومقاوحة الدنيا وصعوباتها.

قصة أيمن.. لا تختلف كثيرًا عن قصة شاعر كبير جميعكم تعرفونه.. وأعتقد أن أيمن نفسه يعتبره مثالًا.. والملايين من شعبنا يعتبرونه كذلك.. هو عبدالرحمن الأبنودى.. الذى نحب جميعنا مناداته بالخال لنؤكد للعالم أننا جميعًا أولاده الذين لم ينجبهم.. فالخال والد.

الأبنودى.. كانت لديه الفرص، رغم الفقر الذى عاشته أسرته فى أبنود قبل ثورة يوليو، أن يتعلم.. وكان والده الشيخ الأزهرى حريصًا على أن يعلمه.. لكنه مثل كثيرين من المتمردين.. لم يشأ أن يستمر فى هذا الطريق واكتفى بالثانوية التى توظف بها فى محكمة قنا.. وكان من الممكن أن يستمر موظفًا جيدًا.. فالموظف أيامها وفى تلك البقعة كان رجلًا موفور النعمة والهيبة.. لكنه ترك الوظيفة مثلما هو التعليم الجامعى وراح يرمح وراء حصان موهبته العظيمة.. نام فى بوفيه محطة رمسيس وفى حجرات أصدقائه وبيوتهم، حيث لم يكن له من سكن أو مورد مال يسمح له باستئجار مكان.. لكنه سرعان ما قبل وظيفة بسيطة فى مسرح العرائس، لكنه لم يستمر بها طويلًا.. وكان أن فتحت له الدنيا أبوابها الواسعة من باب الغناء والشعر وصار النجم والمثل الذى نعرفه.

بعد كل هذه السنوات.. وبعد كل ذلك النجاح وبعد أن تعود أن يلتقيه الرؤساء والوزراء والملوك.. ونجوم المجتمع من كل حدب وصوب ذهب الأبنودى يفتش فى أوراقه القديمة؛ ليحصل على ملف نجاحه فى الثانوية العامة ويذهب به إلى كلية الآداب ويدرس من جديد ليحصل على شهادة الليسانس فى الآداب.

لم ننتبه وقتها للأمر.. ولم يتاجر هو بالأمر.. يبدو أن الأمر كان شخصيًا.. كان رهانًا بينه وبين نفسه ودينًا للشيخ الأبنودى الكبير، رأى أن يوفيه حتى وإن كان قد تجاوز الستين من عمره.

الآن.. يفعلها أيمن بهجت قمر.. الذى لم تسمح له ظروفه بعد وفاة والده النجم الكاتب الكبير الذى أمتعنا لسنوات بأعماله السينمائية المسرحية والغنائية كذلك.. ولم يستطع أيمن أن يكمل دراسته بعد أن غرق لشوشته فى سكة الفن.. كان الشاب الصغير على موعد مع معركة مضاعفة تفوق جسده النحيل وقدراته الحياتية معًا.. هو يريد أن يتجاوز أنه ابن بهجت قمر لينجح فى مهمته.. ليصبح شاعرًا وكاتبًا له اسمه الذى لا يقل عن اسم والده.. ومن ناحية أخرى أن يعبر «محنة الحياة ذاتها».. ونجح الشاب فعلًا.. اقتحم مجال كتابة الغناء ونجح مع أبرز نجوم جيله وأكثرهم شهرة فلم يكتف.. وراح يسابق أستاذه سيد حجاب فى مجال الكتابة للدراما، فنجح أيضًا وصنع له اسمًا وطريقًا يختلف عن طريق سيد حجاب والأبنودى.. ثم ذهب إلى السينما وراح يكتب السيناريو والحوار لعدد من الأفلام تجاوزت مشاهداتها وإيراداتها الملايين.. ولم يتوقف.. وحينما توقف ليلتقط أنفاسه وينظر إلى ما حقق وهو الأب الذى أنجب وصار له بيت وأطفال تذكر ما كان قد هجره مرغمًا فى بداية الطريق. 

كان الأمر فى البداية.. يبدو وكأنه دعابة يتناقلها مع أصحابه.. لكنها لم تصبح كذلك.. هو يريد أن تصل الرسالة لأطفاله.. ولغيرهم.. لا شىء يمنعك من النجاح إن أردت.. والأهم من ذلك أن الرجل لا يتوقف عن التعليم فى أى وقت ولا سن.. رسالة الشاعر المعلم أيمن بهجت قمر أن التعليم أكبر من كل النجاحات التى حققها فى الغناء والمسرح والسينما والحياة.. ها هو يعلنها للكل.. التعليم هو الحياة الحقيقية.. هو الرحلة التى لا يجب أن تتوقف فى أى لحظة وعلينا أن نعود إليها دومًا.

لماذا أتوقف عند هذه القصة.. وجميعكم يعرفها.. لأننى أريد أن أنبه إلى أمر أعده جللًا.. أجده ملحًا.. لقد صار أطفالنا لا يجدون فى التعليم أى ميزة، لا يعتبرونه جواز مرورهم للمستقبل.. لم يعد أطفالنا أو شبابنا يرغبون فيه من الأصل، صار نموذج الممثل الذى يكسب الملايين وتجرى عليه الفتيات الجميلات والمغنى صاحب السلسلة والقمصان المفتوحة ولاعب الكرة الذى تطل علينا أخباره وأخبار ملايينه من كل ناحية هو البطل.. بطل الحكاية.. النموذج.. وزاد الأمر تعقيدًا أن ملايين المتعلمين من حملة الشهادات العليا والدكتوراهات عاطلون يجلسون على المقاهى أو أمام شاشات الكيبورد يلعنون أيامهم وشهاداتهم ويسخرون من وزيرهم الذى يكرِّم «ممثلة» ويتركهم يلعبون «البلاى ستيشن».

فى هذه الأجواء الخانقة يبدو نموذج أيمن بهجت قمر مبهجًا وضروريًا ودالًا.. نحتاجه بشدة.. أيمن قمر صاحب أغنية «طوبة لابنك.. وطوبة لابنى» يبنى هذه المرة فى مساحة مختلفة معمارًا جميلًا علينا أن نشاركه البناء وأن نحتفى به وأن نبتهج معه والبناء يعلو.