رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا لا نزرع الدخان؟

تحول العالم كله الآن إلى بحر من الاقتصاديين.. لا أحد كان يشغله أولئك الذين يتحدثون فى الأرقام.. عدد قليل من الناس حول العالم كان ينتبه إلى مؤشرات البورصة.. أولئك التجار وأصحاب الأعمال والمسحورون بلذة الأوراق المالية.

الآن.. حتى أولئك الذين لم يكن يشغلهم سوى مباريات برشلونة وليفربول وريال مدريد وقصص نجوم الكرة صاروا يتركون مقاعدهم أمام شاشات محللى الكرة بنفس الشغف لمعرفة سعر البترول، ولم يعد الترند العادى حول النساء الشهيرات وشيوخ الفتنة والفتة من أولوياتهم.. صارت أسعار الذهب وأرقام الاحتياطى النقدى وأسعار الخضر والفواكه هى محور حديثهم.

انتهى الدورى فى مصر.. وفاز الزمالك ببطولته للعام التالى على التوالى.. فانصرف جمهور الأهلى عن متابعة باقى المباريات لكن محمد صلاح لا يزال يلعب.. وليفربول لا يزال كما هو.. رحل ساديو مانى لكن باقى نجومه الذين تتناقلهم الألسن موجودون فماذا حدث؟

لماذا يتحدث المقهى فى أحوال الاقتصاد والبورصة والبزنس والاستحواذ والركود والتضخم، وكل هذه المصطلحات التى لم نكن نحب سماعها وكنا ندير المؤشر عنها؟

لم يعد أى شىء فى حياتنا بعيدًا عن الاقتصاد.. وهكذا هو طول الوقت لكن لم نكن نعرف أو نفهم.. اليوم حتى المقهى وصاحبه يسألان بشغف: هل ستؤثر هذه الحرب- يقصدان روسيا وأوكرانيا- فى أسعار المعسل والبن.. يسأل صاحبنا مأمور الضرائب الذى يجلس بجوارى.. فيستغرب ثم يجيب.. نعم.. «كله حيتأثر.. واتأثر فعلًا» البن والدخان نستوردهما من الخارج وبالعملة الصعبة وبأرقام كبيرة.. ومثلما سيرتفع كل أسعار الخامات والمواد المستوردة.. قطعًا سيزيد سعر المعسل والسجائر والبن والشاى كمان».

المقهى بحاله تحول فجأة إلى حوار مفتوح عن أنواع المعسل.. قص وسلوم وتفاح والذى منه.. حتى أن أحدهم سأل فجأة: «طب وإحنا ليه مانزرعش الدخان زى زمان ونوفر العملة الصعبة دى؟!.. ليه مانزرعش شاى.. أنا فيه واحد صاحبى زارع شجرة شاى أزرق».. نعم كان المصريون يزرعون الدخان فى عصر محمد على.. ثم منعه الخديو عباس.. ثم عاد مجددًا فى عهد سعيد.. ثم تم منعه مرة أخرى وكان سبب منع زراعة الدخان لأسباب اقتصادية خالصة.

لقد وجدت الحكومة وقتها أن استيراد الدخان من لبنان وغيره وفرض جمارك على استيراده سيوفر دخلًا للخزانة من العملات أكبر، وأهم من ذلك العائد الذى تجنيه الحكومة من الضرائب التى تفرضها على زارعيه.

والأهم أن محمد على كان يحتاج إلى الأراضى التى تتم زراعتها بالدخان ليستبدلها بزراعة القطن الذى كان قد تفوق فى أسواق العالم.. المزارعون أنفسهم وجدوا فى أسعار القطن ما يغريهم ويجعلهم يهجرون زراعة الدخان.. ووجد المستوردون فرصتهم أيضًا لجنى مكاسب ضخمة فى عمليات الاستيراد والبيع بأسعار مغالى فيها لأصحاب المزاج.

ومن يومها.. لم نعد نفكر فى زراعة «المزاج».

كنا نزرع الدخان نعم.. لكنى لست متأكدًا من كوننا كنا نزرع البن والشاى أم لا.

ربما يتصور البعض أن مناقشة أمر المعسل والسجائر والبن والشاى أمور تافهة فى ظل ما يعانيه العالم الآن من أزمة غذاء طاحنة.. أوروبا بحالها تعانى الآن من شح فى إمدادات الغذاء وقد ينتقل الأمر إلى بلدان أخرى إذا ما استمرت هذه الحرب.. وقطعًا سيتأثر الجميع.

المؤكد أن الزيت والفول والعدس أهم من المعسل والشاى والبن.. ولكن هل حسب أهل الاقتصاد بكم نستورد هذه المواد التى لا يمكن للمصريين أو غيرهم الاستغناء عنها فجأة؟ 

لقد نصح الأطباء.. ووزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية بالبعد عن التدخين كونه ضارًا للصحة.. ويسبب السرطان حسب تأكيدات الشركة المنتجة.. فهل توقف العالم عن التدخين؟

أزمة الاقتصاد التى يعيشها العالم تضغط على أعصاب الناس بشدة.. وهو الأمر الذى يزيد حاجتهم إلى المهدئات والمكيفات والمنبهات، فماذا إذا ما تضرروا من عدم وجودها؟

وبعيدًا عن هؤلاء الذين سيجدون حلولهم الفردية حتمًا.. لماذا لا نفكر فى الأمر بشكل اقتصادى لتوفير هذه العملات الضخمة التى ننفقها على استيراد الشاى والبن والدخان؟ لا أعرف إذا ما كانت أراضينا ومناخنا يصلحان لهذه الزراعة.. لكن المؤكد أن أساتذة الاقتصاد والزراعة يعرفون.. مراكز البحوث الزراعية تعرف.. ورجال الاستيراد والجمارك يعرفون كم ننفق، لكن الذى أعرفه علم اليقين أن هذه الملايين التى تجلس على المقاهى ولم تعد تهتف بجدية وحماس لأهداف محمد صلاح، مشغولة جدًا هذه الأيام بأخبار الاقتصاد.. حتى وإن كان اقتصاد المعسل «القص والسلوم».