رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن فيريرا.. والمطرب النقاش.. الدرس ابتدى

أحب الكرة مثل الملايين فى بلدى وفى العالم.. لكننى لست مهووسًا بنتائجها.. لا يهمنى الذى كسب أو من خسر.. لا يهمنى ذلك الترتيب فى الجدول الذى صار معادلة رخيصة وغير رياضية على الإطلاق.. أحب الكرة والفرجة عليها.. وسط الناس فى أى مقهى شعبى.. لأننى أشعر معهم بالحياة.. مجرد هذه الفرصة لدقائق أو ساعات هى حياة.. نضحك ونسخر.. ونمرح.. ونزغد من هم بجوارنا مع كرة طاشت بعيدًا عن المدرجات ثم ينتهى الأمر.. وقد لعبت بأرواحنا تلك الساحرة.. محبتى للكرة لا تصل لأمر محبتى للموسيقى والطرب.. الأمر مختلف.. فقد صار الغناء جزءًا من مشاعرى وجسدى وعقلى.. أمارسه كهاوٍ وأدخل استديوهاته مشدوهًا وكأننى طفل صغير تمسك بتلابيب «جلابيته» تلك النغمات التى تمرح بين أيادى العازفين.

أسعد أيامى على الإطلاق تلك التى أعيشها أثناء تسجيل إحدى الأغنيات سواء، كانت من كلماتى أو من تأليف زميل بينى وبينه مودة ولا يخجل من حضورى لمطبخ تجهيز أحد أعماله، وكثيرًا ما حدث ذلك مع أعمال شعراء كبار شرفت بالعمل بجوارهم مثل الأبنودى وسيد حجاب ومجدى نجيب.

القصد أننى فى الحالتين.. أمارس إنسانيتى سواء كنت مشاركًا «فى اللعبة» أو متفرجًا طربًا مما يبدعه الآخرون سواء أعرفهم أو لا.

هذه الأيام.. هذا الأسبوع تحديدًا.. تخطت حدود معرفتى بعالم الموسيقى وعالم الكرة ذلك التعامل المباشر.. ووجدت فى حدثين لا علاقة بينهما بشكل مباشر درسًا مهمًا علينا أن نستوعبه.. الأول فرضه علينا ذلك الرجل السبعينى العجوز القادم من البرتغال.. واسمه «فيريرا».. هذا الرجل سبق وأن جاء إلى مصر منذ أعوام.. وعلى ما أظن حصد بطولة الدورى لفريق الزمالك ثم رحل.. ولم يحدث أن أثار انتباهنا بهذا الشكل.

درس فيريرا لم يكن إذن فى فوزه ببطولة الكأس أو الدورى لفريق ما.. درس فيريرا الذى نحتاجه أعظم من ذلك بكثير وأوضح لمن يريد أن يتعلم.

الرجل لم يجلس فى بيته لينتظر المعونة.. الرجل فى الملعب رغم تجاوز سنه سن تلاميذه فى الملاعب بكثير.. المفارقة أنه يواجه عددًا من هؤلاء التلاميذ وهم يدربون الفرق المنافسة لفريقه.

الرجل لا يتحدث كثيرًا.. وإن تحدث فهو رجل مهذب يحترم منافسيه، ويتحدث عنهم بإكبار، إذا لعب فريقه بشكل سيئ يعتذر ويقول لقد أخطأت، وإذا فاز يقول إن لاعبيه بذلوا جهدًا طيبًا لكن «المنافسة» لم تنته بعد.

لآخر لحظة الرجل يعمل بانضباط شديد وصارم، لقد فرض الرجل نظامه على الجميع.. اللاعبين كبارهم وصغارهم.. لم يعد هناك نجم للفريق.. رحل من رحل.. ومضى من مضى غير مأسوف عليه.. والرجل لا يعبأ بأى خسارات محتملة.. يدفع بالموهوبين لا تهمه أعمارهم.. ولا يخاف من المجازفة.. لم يشكُ من قلة الإمكانات.. ولا الغيابات، هو لا يشكو.. لكنه يعمل.. والأهم أنه يحب ما يفعله.. هذا هو الدرس الأهم فى رحلة هذا الرجل فى ساحة الرياضة المصرية هذا العام.. الفهلوة لا تأتى بثمارها دومًا، وإن حدث، وإن فعلت مرة أو اثنتين، العمل وحده هو ما يجعلنا دومًا فى المقدمة.. وحُب هذا العمل والاستمتاع به هو ما يأتى لنا بمحبة الآخرين.. احترامنا للآخر هو ما يدفع الآخر لاحترامنا.. والأهم.. لا توجد سن محددة للنجاح.. ما دمت تملك «نفسًا» وقلبًا ينبض بين ضلعيك.. إذن أنت فى الملعب لم ينته الأمر بعد.

وهذا أيضًا هو سر ذلك النجاح المليونى الغريب الرائع للرجل الذى أسميناه «المطرب النقاش» شاب بسيط مثل الملايين من شباب مصر المكافحين.. وُلد لأب بسيط مثله يعمل فى مهنة النقاشة، وهى مهنة الفنانين بالمناسبة، ووجد أن ظروفه تدفعه لتكرار تجربة والده.. بالعمل معه والتعلم منه.. ثم بإكمال طريقه بعد رحيله.. الشاب يجيد الغناء.. لكن ظروفه منعته من أن يذهب ليتلقى العلم.. علوم الموسيقى.. ولم يفعل مثل كثيرين ويرمى نفسه فى حضن الملاهى وحياة الأفراح.. اكتفى بممارسة عمله الطبيعى فى النقاشة والاستمتاع بما يعمل.. وأثناء عمله هو يمارس الغناء لنفسه وأصحابه ورفاق يومه.. أحدهم صوّر له فيديو وهو يغنى لحن كمال الطويل البديع.. بكرة يا حبيبى.. وبأريحية راح الشاب يمرح بحنجرته مستخدمًا «إيقاع قاعد» فهو يعمل.. ولا يهمه سوى أن يسلطن نفسه ويُسرّى عن قلبه فى تعب «الشغلانة» التى يؤديها ليأكل عيشه.

بعد عام كامل من تصوير الفيديو.. تم رفعه على إحدى القنوات.. السوشيال ميديا التقطته من صفحة الزميل الخبير العازف صلاح علام.. ومن صفحة إلى أخرى وصل إلى عدد من الملحنين والمطربين ومقدمى البرامج ليتحول أحمد سالم إلى نجم فى غضون أسبوع.. الأهم أن أحمد الذى لم يستوعب ما حدث.. لا يعرف لماذا يحدث كل ذلك الآن.. الآن فقط.. هل هى ضريبة الصبر.. أم لأنه موهوب فقط؟.. هل قدر الله له أن يقاسى كل تلك السنوات ليحصد النجاح كله دفعة واحدة؟

سوف تذهب فورة الاحتفاء بأحمد سالم بعد أسابيع أو شهور.. وقد يصمد الفتى ويكمل طريقه الذى تمناه وحلم به منذ كان طفلًا.. لكن الأهم أنه علمنا درسًا.. لا يقل عن درس فيريرا البرتغالى.. أن يعمل، وأن يحب ما يعمل.. وأن يصدق نفسه وموهبته وقدراته التى منحها له الله.. أن يسعى حتى وإن لم يدركه النجاح فى حينه.. أحمد سالم.. موهوب حقًا.. وأعتقد أنه لن يكون مجرد ترند مثل مطربة «البامية شوكتنى».. لكن والأهم.. كلاهما.. يؤكد أن أذواقنا بخير.. وأن شعب مصر المحب للفنون على أنواعها، بما فيها فنون الكرة، ما زال بخير.. وسيظل.