رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأدب والرؤية الفكرية

يقول الروائى المعروف ميلان كونديرا فى حوار معه بمجلة «باريس ريفيو» إن الرواية الحديثة هجرت المرئى للأفعال، أى أنها شبعت من وصف العالم والشخصيات من الخارج، لذلك لم تعد الشخصية الروائية محاكاة لكائن حى محدد، بل خلق كائن خيالى، وبذلك تعيد الرواية تواصلها مع بداياتها حينما كانت شخصية «دون كيخوت» خلقًا فنيًا وليس تجسيدًا لكائن واقعى محدد، ولهذا كله انتقلت الرواية الحديثة بثقلها إلى عالم الإنسان الداخلى، ثم إلى أحلام اليقظة، ثم إلى التسليم بوجود العالم الخارجى الطاغى، حيث يتساوى فيه أن تكون لك إرادة أو ذكريات من عدمه.

خلال ذلك يؤكد «كونديرا» أن الرواية التى لا تكتشف قطعة مجهولة من الحياة رواية بلا معنى، لأن المعرفة تظل الفضيلة الوحيدة للرواية عبر تاريخها، وهذا ما قدمه إلينا بلزاك وديكنز وكل الكتاب العظام، أيضًا فإن الشغف بالمعرفة هو سر العمل الفنى القادر على حماية الحياة من «النسيان»، وحسب تعبير كونديرا فإن الرواية «تفجير للخيال فى الفضاء».

ولا شك أن لملاحظات كونديرا السابقة أهمية خاصة، لكن ذلك لا يجعلنا نتغافل عن ملاحظاته الأخرى التى تحتاج لمراجعة، وعلى سبيل المثال فإن كونديرا يحسب أن الرواية ابتداع أوروبى بحت، وأن اكتشافاتها تنتسب إلى الفكر الأوروبى، متجاهلًا تمامًا مساهمة الحضارات الشرقية، لذلك فإنه حين يشير إلى حكايات الديكاميرون فإنه لا يتذكر، ولا يذكر أنها تنويع على حكايات ألف ليلة وليلة.

ومن المستغرب بدون شك أن يلح كونديرا على أن الرواية «ابتداع أوروبى»، بينما الطابع «الأوروبى» فى تاريخ الرواية نقطة فى رحلة تطور الرواية، وتمتد قراءة كونديرا الذاتية هذه إلى قضايا أخرى تاريخية من نوع حديثه عن «العداء العام للسامية»، على أساس أن ذلك العداء أمر مسلم به وليس بالونة من الأكاذيب، وربما بسبب تلك الرؤى حصل كونديرا على جائزة «القدس» التى منحتها له إسرائيل وأعرب عن فرحته الكبيرة بها، مدعيًا أن «إسرائيل قلب أوروبا الحقيقى»، وأن اليهود- بعد أن خذلتهم أوروبا بطريقة مأساوية- قد استعادوا وطنهم الصغير! ويذكرنا كل ذلك بما أشار إليه كونديرا من أن مرض العصر الراهن هو: «الإجابات السهلة السريعة الأسرع من الأسئلة»، ذلك أن الروائى الكبير نفسه مصاب بنفس العلة، وأنه يسلم نفسه بمنتهى السلاسة للإجابات السريعة عن الأسئلة التى تحتاج إلى التأمل. هناك بطبيعة الحال قضايا كثيرة مركبة فى عصرنا، لكن أى كاتب نزيه سيتردد قبل أن يقدم إجابات حاسمة، وقد يقول لنفسه: 

«إننى أعرف القليل بشأن تلك القضية، لذلك لا ينبغى علىّ التعجل بإصدار حكم عليها»، لكن حين يتطوع الروائى بآراء وأحكام مجانية فإن ذلك إشارة إلى أنه يفتقد الرؤية الفكرية.

ونحن- على سبيل المثال- قد لا نعرف الكثير عن الكفاح الأيرلندى ضد بريطانيا، لكن ذلك لا يعنى الانزلاق إلى موقف قبل أن نتبين أبعاد القضية، فإذا لم نستطع فلنصمت، وتبدو رؤية كونديرا الفكرية المتخبطة للتاريخ حين يحسب أن الحروب تشتعل بلا دوافع خاصة سوى أن القوة الغاشمة تختار ما تختاره!

وللأسف فقد عرف تاريخ الأدب كُتّابًا موهوبين لكن بلا رؤية فكرية، الأمر الذى عاقهم عن التحليق إلى أرفع درجات الفن هناك، حيث يستقر ديكنز وتولستوى وجوته وغيرهم.