رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النوبة موقفان فى السياسة والأدب


فى السياسة وفى الأدب أيضاً هناك موقفان من الموضوع النوبى، رؤيتان، فكرتان، توجهان، الأول يغذى دواعى الانفصال والنعرة القومية ويتاجر بآلام النوبيين ويقدر أن عرقاً خاصاً بلغة خاصة لا يربطه شىء بمصر، وأن القضية كما وصفها حجاج أدول هى «تذويب شعب»!!

الموقف الثانى يرى أن معاناة النوبة هى فصل من فصول الشقاء المصرى الكبير فى الريف والصعيد وقاع المدن الضخمة، ويرى النوبة فى مصر ومصر فى النوبة، الموقف السياسى الانفصالى الذى يتغذى على تمويل المؤسسات الأمريكية يشحن الأجواء قدر استطاعته بروح الانفصال واستعداء أبناء الوطن الواحد على بعضهم البعض، والموقف السياسى الثانى يجد فى القومية المصرية جامعاً لكل الأعراق واللغات والثقافات، وقد انعكس الموقفان على الأدب المصرى النوبى، كانت الرواية النوبية فى البداية تتحدث عن النوبة بصفتها جزءاً من اللحمة الوطنية المصرية، كما فعل «خليل قاسم» فى روايته العظيمة «الشمندورة»، ثم أصبحت الرواية «النوبية» لدى البعض حكاية لمواجهة مصر بدعوى خصوصية تاريخ وسكان ولغة المنطقة، ولا شك أن النوبة تعرضت لإجحاف شديد عند التعلية الأولى للخزان عام 1912، والتعلية الثانية فى 1933، حينما أغرقت التعليتان القرى المتاخمة لأسوان، وأيضاً عند بناء السد العالى 1960 الذى نجم عنه تحويل خمس وأربعين قرية إلى بحيرات.وتجلت مرارة تلك الأحداث فى الشعر أولاً بدءاً من ديوان «فى ظلال النخيل» لمحمد عبدالرحيم إدريس عام 1948، ثم ديوان «النائح الشادى» لحسين روم فى 1952، ثم طرح خليل قاسم تلك المآسى بعظمة الكاتب والمواطن المصرى فى «الشمندورة» عام 1968، وفيما بعد ظهر جيل جديد من الروائيين فى مقدمتهم الأديب الكبير يحيى مختار وحسن نور وإدريس على وحجاج أدول، وجرى ترسيخ فكرة «الأدب النوبى» القومى مع نشاط المنظمات الممولة وظهرت الدعوات لفصل النوبة عن تاريخها المصرى لدى البعض، كما ظهرت على العكس الدعوة لترسيخ وحدة مصر مترافقة بطرح هموم وأوجاع النوبة الخاصة، وتجلى بقوة - داخل الأدب النوبى المصرى - موقفان مختلفان لتيارين متناقضين، التيار الانفصالى الذى يمثله حجاج أدول وإدريس على، والتيار الذى يمثله الكاتب الكبير يحيى مختار والذى قدر أن هموم النوبة من ذات هموم المصريين جميعاً، وأن خيوطها من النسيج نفسه، المفرح والمؤلم، تيار حجاج أدول يتجسد بوضوح فى رواية «خط الفقر» لإدريس على، حيث يدور حوار بين صبى نوبى وموظف يقول للصبى: «هذه أراض مصرية»، فيجيبه الصبى «بل نوبية»! ويمثل ذلك الخط الأدبى السياسى العجز عن إدراك القاسم المشترك بين أحزان الشعب المصرى، ومن ثم يعجز عن الارتفاع إلى الهم العام، أى يعجز عن أن يكون أدباً، بينما يقدم لنا يحيى مختار فى كل رواياته وقصصه خطاً آخر يجد أن مصر بما فيها النوبة تاريخ متصل له جوهر واحد مرتبط، وسوف يلفظ النوبيون قبل غيرهم كل موقف انفصالى فى السياسة والأدب، كما لفظوا من قبل كل دعوة للتشظى بعيداً عن مصر.

■ كاتب وأديب