رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نادين شمس والموت الجوال


هناك وجوه تبقى فى الذاكرة أطول من وجوه كل الذين اكتشفوا أهم القوانين العلمية أو الفضاء الشاسع أوأعماق البحار. وجوه تبرز نوعا نادرا من بطولة تحاول بابتسامة عذبة أن تتخطى الأسى العميق. رحلت نادين شمس عن اثنين وأربعين عاما يوم السبت 22 مارس وتركت لنا صورتها بنظرة عينيها الواسعتين المشبعتين بحزن رقيق وأمل خافت.

خطأ طبى فى مستشفى خاص كبير بالقاهرة أودى بحياة الكاتبة والمؤلفة الشابة. خطأ طبى أيضا كاد منذ شهر أن يودى بحياة علاء خالد صاحب مجلة «أمكنة» فى مستشفى خاص كبير فى الإسكندرية. يتجول الموت حرا طليقا فى بلادنا، ويختطف الزهور واحدة بعد الأخرى، من الشوارع والحقول ومن المستشفيات، ويموت الإنسان هناك حيث ينبغى أن ينجو! وليست حادثة نادين المفجعة استثناء، ففى الأول من مارس الحالى حطم الأهالى مستشفى إمبابة العام واعتدوا على الأطباء بعد وفاة مريض عن طريق الخطأ. شاعت هذه الحوادث متجاوزة «الخطأ» الفردى إلى خطيئة الدولة عامة فيما يخص وضع المصريين الصحى، فالدولة عمليا لا تمارس أى نوع من الرقابة على المستشفيات الخاصة، وذلك منذ العمل بسياسة خصخصة القطاع الصحى وطرح صحة المصريين سلعة فى السوق. على المستوى العام فإن الإنفاق الحكومى على الصحة لا يتجاوز أربعة بالمئة بينما يصل ذلك الإنفاق فى بلد مثل لبنان إلى 12.2% من إجمالى الناتج القومى! وفى ظل تلك الميزانية الهزيلة تتحول المادة الثامنة عشرة من الدستور إلى عبارات إنشائية بنصها الموقر «لكل مواطن الحق فى الصحة والرعاية الصحية المتكاملة».بسبب السياسة الحكومية يتجول الموت حرا فى بلادنا حتى أصبحت مصر تشغل المرتبة الأولى بين دول العالم من حيث الإصابة بفيروس «سى» بنسبة 15% من المصريين، أما الربو الشعبى فإنه يلتهم صدور نحو عشرة بالمئة من السكان، غير نسبة الفشل الكلوى المرتفعة أعلى من أى دولة أخرى. أصبحت مصر فى أمس الحاجة إلى سياسة جديدة بعين جديدة ترى واقع صحة المصريين. وعندما نتحدث عن الصحة فإن ذلك المفهوم حسب المواثيق الدولية لا يشمل حق المواطن فى العلاج فحسب، بل يمتد إلى الحق فى السكن الصحى والبيئة النظيفة والمياه النقية. وعندما تتذرع الحكومة والدولة بأن مصر بلد فقير غير قادر على الإنفاق من عرق الشعب على صحة الشعب، فعلينا أن نذكرها بما أظهرته قائمة «فوربس» مؤخرا من أن ثروات رجال الأعمال فى مصر زادت مؤخرا رغم كل الأوضاع السياسية المتقلبة، وبلغ مجموع ثروات ثمانية من رجال الأعمال المصريين أكثر من اثنين وعشرين مليار دولار، أى ما يتجاوز مئة وستة وخمسين مليار جنيه! هذا فى الوقت الذى تنفق فيه نحو 85 % من الأسر المصرية أقل من ألفى جنيه شهريا.

من دون سياسة جديدة فى مجال الصحة تشتمل على رقابة صارمة على المستشفيات الخاصة سيظل الموت شابا تتجدد قواه فى بلادنا، يختطف أجمل العيون وأجمل العقول من الشوارع والحقول ومن على أسرة المستشفيات، وستظل نظرة نادين شمس المشبعة بالحزن والأمل تطارد ضمائرنا بالعتاب واللوم