رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لعبة تصدير الفزع

طبول الحرب تدق..

هكذا يرددها البعض فأستعجب.. كيف تكون حرب وهناك من يدق لها الطبول؟ هى جملة غريبة لا تقبلها ذائقتى كلما سمعتها.. الطبول عرفناها للفرح لا حزن فيها.. الطبول للبهجة فقط فكيف تكون مرادفًا للجروح والقتلى والمصائب؟!

يبدو الأمر غريبًا بالنسبة لى.. رغم أننى أعرف جيدًا أن الفكرة كانت نوعًا من زيادة الاستعداد عند المحاربين.. استخدموا الطبول قديمًا ومعها النفير لزيادة حماس الجنود من ناحية، وزيادة فزع الطرف الآخر الذى نقرر محاربته من ناحية أخرى.. هكذا بدأت الأمور فى زمن قديم.. وأصبحنا نستعملها بعد ذلك كلما رأينا «إثارة» الفزع عند الآخرين.. أى آخرين..

ومنذ سنوات تزيد على العشرين.. وهناك فى ذلك العالم الواسع من يريد لنا هذه الحياة.. الحياة تحت ضغط «الفزع» وإثارة حماسنا نحو الاقتتال.. وكأنها لعبة.. لها رابحون ومنتصرون نحن لا نعلم عنهم شيئًا..

هؤلاء الذين لا نعرفهم.. أخرجوا لنا من فيض تسريباتهم ما يفيد بأن حربًا كبرى سوف تجرى على هذه الأرض.. ونشروا خرائط المدن التى ستجرى فى شوارعها ومعسكراتها.. وعدد الجنود الذين سيشاركون فيها.. وعدد القتلى.. وعدد المدن التى سيتم تدميرها.. ونوع الأسلحة المستخدمة.. فبات كل خائف من هذه الحرب يحشد عدته..

وعندما هاجمنا فيروس «كورونا»، الذى لم نكن نعرف وجهته.. ظننا أنها الحرب.. حرب من نوع جديد.. فرحنا نبحث عمَّن «أطلقه».. ولما وجدنا أن العالم كله يعانى.. ويقع من بين صفوفه «قتلى ومصابون» لم تقبل عقولنا فكرة أن هناك من قرر تدمير العالم برمته.. أدركنا أنها ليست «الحرب المنتظرة» فذهبنا نلهث، ولأول مرة، منذ سنوات بعيدة خلف «الأطباء».. نفتش فى ضمائر «العلم»، العلم الذى كنا قد أهملناه عمدًا أو بدون قصد وقبل أن تتعافى البشرية تمامًا.. قبل أن يتم الإعلان عن «حصاد الفيروس»، الذى لعب معنا لعبة التحوير أكثر من مرة.. كان أن «دقت طبول الحرب مجددًا، لم يشفع لهم ولنا أولئك الذين خرجوا من الحياة سواء بالموت فعلًا.. أو بتدمير اقتصاداتهم.. فالكثيرون قد خرجوا من ملعب الحياة متأثرين اقتصاديًا بشكل مفزع خلال عامين لعبنا فيهما «لعبة كورونا»..

الآن.. وبعد ما يقرب من أسبوعين على بدء ما أسميناه الحرب الروسية الأوكرانية.. الجميع يتداول ما تيسر من «آيات الفزع».. حمى اجتاحت العالم تحذر من تداعيات اقتصادية مرعبة.. سوق المال جبانة بطبعها.. هكذا هو الحال دائمًا.. ولعبة «التخزين» يعرفها كبار العالم قبل صغاره.. وإذا ما بدأت زادت الأسعار.. وزادت حمى الشراء.. وقد تسطيع دولة ما أن تضبط إيقاع «تجارها» بحصارهم، لكنها قولًا واحدًا لا تستطيع ضبط إيقاع «الخائفين من نقص السلع»..

هى عادة إنسانية وليست قصرًا على مصر أو العالم العربى.. هذه الحمى تسببت فى حالة من الفوضى فى الأسواق المصرية خلال الأيام الثلاثة الماضية.. ورغم أننا وفى مثل هذه الأيام من كل عام قبيل قدوم شهر رمضان الكريم نذهب إلى الأسواق لشراء ما يحتاجه الشهر المبارك وموائده العامرة.. فإننا هذه المرة ذهبنا مدفوعين بطبول الحرب.. من يحتاج كيس سكر راح يشترى بالخمسة.. ومن يحتاج علبة سمن راح يشترى بالثلاث.. وكان أن وجدها «المرابون والمحتكرون» فرصة مضاعفة لزيادة أرباحهم.

حسنًا فعلت الحكومة.. عندما أعلنت عن توفير نفس السلع فى مجمعاتها فأبطأت قليلًا هذه الحمى.. وحسنًا فعلت حينما دفعت بمفتشى التموين للتواجد مجددًا لضبط المحتكرين، وإن كان التواجد غير ملحوظ بشكل كاف ويحتاج إلى «قوات إضافية من هؤلاء المفتشين» ونحتاج إلى ظهور لافت لمسئولى التموين فى برامج التليفزيون لإبراز عقوبات هؤلاء «المتاجرين بأقوات الناس».

لكننا نحتاج أيضًا إلى من يستطيع أن يلعب مع هذه الحرب.. «لعبة الأمان».

هى ليست لعبة بالمعنى المفهوم.. لكننى أثق أن الشعب المصرى الذى تجاوز ما هو أقسى وأمر من هذه الأيام يعرف تمامًا «سر اللعبة» ويستطيع تجاوز هذه الحرب مثلما تجاوز غيرها.

لقد حكى لى الشاعر الراحل عبدالرحمن الأبنودى فى منزله الريفى بالإسماعيلية عندما سألته من أين تعلم الزراعة وهو الراعى الشاعر.. أنه تعلم «حكمة الفقر» قبل أن يتعلم الزراعة من أهله فى قنا الذين شاهدهم طفلًا يقاومون بأجسادهم.. «دمار النيل» نعم النيل كان مدمرًا قبل أن يتم بناء السد العالى، كان الفيضان يأتى فى موسم «الدميرة» فلا تقف أمامه سدود صغيرة ولا بيوت طينية فقيرة.. ولا أخشاب أو حديد كان يأخذ كل ما يجده فى مواجهته.. ويفيض بالماء الأحمر- طمى أحمر يخصب الأرض- والأسماك.. وعندما يرحل بعد أن يتعب من مجابهة أجساد الرجال كانت النساء والأطفال يجمعون الأسماك الكثيرة جدًا.. التى تزيد على حاجة البيوت فيقومون بتمليحها وتخزينها..

هكذا عرف المصرى القديم كيف يخزن الجبن فصار «المش» والجبن القديم.. ويملح الأسماك ويحفظها، نحن الذين حولنا أى «فيضانات مدمرة» إلى خير.. دائمًا كنا نستفيد من «مواجعنا».. فربما هى فرصة جديدة للعالم أن يتعلم ولنا. 

مصر العظيمة لن تسقط أبدًا.. المولى يحفظها.. ورجالها يحفظونها.. ونساؤها قادرات على الإبداع فى عز «العبث».. فمن «حنط الأجساد» ليحتفظ بها طاهرة نقية حتى «الخلود» قادر على حفظ كل شبر فيها.

على الحكومة أن تحارب بطريقتها فى تتبع هؤلاء الذين يبحثون عن غنيمة فى قوت الناس.. وعلينا جميعًا أن نتعامل مع هذا «الفزع» الذى يصنعه البعض بقصد.. ويصنعه الآخرون بدون.. لقد خرجنا من «كورونا» ونحن على حال طيب والحمد لله.. فقدنا بعض أحبائنا نعم.. لكننا مستمرون.. وعلينا ألا نفقد أرواحنا فى هذه الحرب التى لا نعرف متى تتوقف طبولها.