رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عندما تبدأ الحرب.. تتوقف الموسيقى

عندما تبدأ الحرب.. تتوقف الموسيقى

هذا ما قاله أحدهم منذ ما يزيد على مائة عام.. لكننا اعتبرناه أديبًا وابتسمنا.. وانتهى الأمر.. فما فائدة الموسيقى إذ تبدأ أو تتوقف.. هى الحياة تتكرر ونحن البشر لا نتعلم. عندما تبدأ الحرب تتحجر الدموع فى العيون.. كل العيون، ويفرح تجار العملة والأسلحة وأصحاب مصانع الأدوية، فهل استعد الأخيرون جيدًا بشكل كاف لصنع ما يكفى من شاش وضمادات لمداواة جراح الثكالى فى ذلك العالم الممتد.. الجميع جرحى ولا منتصرون فى هذه الأيام.

صار العالم قرية صغيرة.. قالها أحدهم أيضًا، وكان يقصد أننا صرنا أكثر قربًا.. لكننا صرنا أبعد ما يكون عن «آدميتنا». صرنا أبعد ما يكون عن الإنسانية.

قبل أن تتوقف الموسيقى رسميًا.. كان الجميع قد عرف أن ثمة طبولًا تدق.. وأن الحرب قادمة، لكن لا أحد كان يستطيع أن يوقف ما بدأ التجهيز له منذ سنوات طويلة، وجلسنا نتفرج وكأنها «حرب إلكترونية» لا تعنينا على الإطلاق، وكأنها لعبة جديدة من ألعاب الموبايل سنمارسها لبضع دقائق لطرد الملل ثم نبدأ لعبة أخرى. 

لثلاثة أيام ونحن نترقب.. فقط نترقب.. وفجأة انتبهنا أن لنا ونحن- البعيدين- جدًا- كما نظن- أبناء يدرسون فى تلك البلاد البعيدة.. أبناء على أبواب الصبا تركونا منذ أشهر قليلة وذهبوا إلى بلاد خلق الله لطلب العلم.. راحوا يبحثون عن مستقبل لنا ولهم.. ربما أحدهم كان يحلم أن يعود بعد سنوات قليلة وقد حمل شهادة الطب لعلاج قلب موجوع فى آخر حدود الريف أو فى قرية صعيدية محرومة.. وربما حلم أحدهم أن يصبح مجدى يعقوب آخر أو زويل.

هؤلاء.. وجدوا أنفسهم على «الحدود» فجأة يحملون هوياتهم- مثل آلاف غيرهم- من أبناء جاليات أخرى لا علاقة لها بالأمر الذى يتنازعون فيه.. يمشون على الأقدام عشرات الكيلومترات بحثًا عن طائرة لم يمسسها الضرر، ومطار لم تقصفه القاذفات بعد؛ ليعودوا إلى صدور وأحضان أمهاتهم وإخوتهم.

يا الله.. كم هو قاس تخيل إصابة أحدهم بمكروه.. نجحت مصر.. وبسرعة.. فى تدبير وتوفير وسائل العودة لأبنائنا، فتنفسنا الصعداء.. لكن شبح الحرب يجلس فوق عيوننا، ولم يعد هناك متسع فى أى زاوية من القلب أو العقل للمرح مع زيكو وأغنية «الغزالة رايقة».. فأى غزلان تلك التى يمكنها أن تمرح وتروح فيما الحرب تقترب.. حتى تكاد تصل إلى أنفاسنا تحت البطاطين التى نتدثر بها ونحن فى أواخر الشتا.

لعنة الله على الحرب وعلى من أيقظها.. كل المحللين الذين أثق بهم.. كانوا يدركون الأمر بقلب عاقل منذ سنوات.. كانوا يرون أن اللعبة التى يمارسها البعض على أوكرانيا ويدفعونها دفعًا إلى «الشهوات المحرمة» بالقرب من هوس الانضمام إلى «الناتو» حتمًا ستؤدى إلى دمار وهلاك أوكرانيا، وأن الأجدى والأنفع لشعبها وللعالم أن تمارس «لعبة الحياد» لكن من لم يقرأ «قصيدة الشاعر إياه.. عندما تتوقف الحرب» لم يكن يحب الموسيقى على ما يبدو والتقط تفاحة الشهوة.. ولم يكن الروس بعيدين عن اللعبة.. عن جذر الشجرة، شجرة التفاح، وربما مارسوا هم أيضًا لعبة.. هز الشجرة. 

لا أقف فى أى ناحية وأنا أنظر إلى الأمر.. فأنا مع أمهات المحاربين على الجانبين.. يحزننى أمر الأمهات اللاتى ودعن أبناءهن قبل أن يرتدوا الخوذات ويدفعن بهم إلى الحرب مجبرين.. أى حرب.. فى أى مكان فى العالم لا أنظر إليها إلا من بوابة الجحيم.. جحيم فراق الأحباء. 

كثيرون يفكرون وكأن الأمر لا يعنيهم، فيما تأثر الجميع وسيتأثرون حتمًا مع أى نتيجة ستصل إليها الحرب.. سواء امتدت لأيام أو لشهور.. أو لسنوات.. لا أحد يكسب الحرب. 

البنات الجميلات فى أبعد قرى الهند سيتأثرن.. فمن ذا الذى سيشترى ذهبًا غاليًا..لقد زاد سعر جرام الذهب الواحد ٢٧ جنيهًا كاملة فى مصر فى أول ساعات الحرب.. تأثرت أسعار البترول.. وقطعًا ستتأثر وسائل النقل وأسعار المواصلات.. راح الجميع يفكر فى قمح أوكرانيا.. وغاز أوكرانيا.. فى الدولار الذى قد يهبط أو يرتفع.. فى الصين وهل ستدخل الحرب أم لا؟ وإن حدث.. فهل سيتأثر العالم الذى يستورد منها.. آلاف الأشياء من كساء وغذاء.

صرنا لساعات نفكر ببطوننا.. نعد ونحسب كم سنتكلف من أموال.. ويسأل الخبراء عن «الركود والتضخم».. ويسأل العابثون هل لدينا ما يكفى من «أقماح».. ثم يضيف جارى على المقهى.. «الحمد لله».. موسم الحصاد على الأبواب.. وسمعنا أن الحكومة تعاقدت منذ شهور على صفقة قمح جيدة من رومانيا.. لكن صاحبه الذى يجلس معه يخبط «قرص الدومينو» يسأل «وعلى كده سعر المكرونة هيزيد ولا مالوش دعوة؟».. ويتواتر الكلام عن ألمانيا وفرنسا وبولندا وعن «سيارات الاتحاد الأوروبى»، وهل ستزيد أسعار السيارات فى السوق المحلية أم لا؟

يفزعنى الكلام فى الاقتصاد مثلما يفزعنى ما يكتبه المشاركون فى الحرب من بيانات عن الموقف على الجبهة.. كل هؤلاء لا يقدّرون كم «الألم» الذى تعانيه أم أو زوجة أو طفل لأب يذهب إلى الحرب.

كل هؤلاء لا يدركون معنى أن يعجز أب.. أى أب.. عن توفير ثمن رغيف عيش لأطفاله بعدما تسببت شهوة رجل ما على الكوكب فى مكان لا يعرفه، وربما لم يسمع عنه من قبل، فى أن ترتفع أسعار الأقماح فى العالم كله بعدما دقت طبول الحرب وتوقفت الموسيقى.

أنا أعرف الموسيقى كلها.. وأدمنها.. لكنى أكره موسيقى الحرب.. هى الموسيقى النشاز التى تفجعنى وأشك أنها تؤلمكم أيضًا.. وكم أتمنى لو أنها أزعجت أولئك الطامحين إلى استعادة أمجاد «القياصرة».. أى قياصرة فى أى بقعة من العالم.. نحن عشاق.. «موليير وكافكا وماركيز».. نحن أبناء الحب والحرية.. خلقنا الله لنعمر أرضه لا لنملأها بالصواريخ المحملة بالرءوس النووية.. لعنة الله على الحرب ورحم ربى الأمهات.. والأطفال الذين يفرون إلى الملاجئ بحثًا عن رحمته.