رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فخ الجميلات وفوضى العلاج الروحانى

منذ ما يقرب من عامين تقريبًا فوجئت بأن أبناء قريتى فى سوهاج وفى قرى مجاورة أيضًا يتحدثون بشكل مكثف عن عمليات تطهير للمقابر على يد من يدَّعون أنهم «شيوخ متطوعون».. وأن الشيوخ الذين جاءوا «من مصر» استخرجوا مئات الأحجبة والأسحار.

حديث «الأعمال» هذا لم يكن يتوقف عند نساء القرى أبدًا.. فلا يخلو بيت هناك من مشكلة سببها اقتناع أنثى بأنها تستطيع الانتقام من «ضرتها» أو سلفتها.. أو قريبة لا تروق لها عبر المشايخ.

لا أزعم أن الأمر جديد على الإطلاق.. فقد ذهبت مع قريبات لى وأنا طفل صغير إلى سيدة كانت تعيش بالقرب من أرض لنا فى منطقة تسمى نجع الدير.. هذه السيدة كانت تتقاضى وقتها أموالًا بسيطة مقابل «فك العمل».. وغالبًا كان يتعلق الأمر بالكشف عن سرقة ما حدثت أو عن مصير قطعة ذهب غائبة، ربما أضاعتها الزوجة دون أن تنتبه.

بمرور السنوات.. كانت تطل تلك الأحاديث على مسامعى من منافذ بعيدة.. بعيدة جدًا حتى كدت أنسى الأمر كله.. حتى فاجأنى به حديث الأهل والأصحاب هناك عن ذلك الشيخ الذى يطهر المقابر وفى يده «زجاجة» تحدد له اتجاهات ومواقع «الأعمال المدفونة».

الغريب فى الأمر أن «الحملة» التى قادها الرجل وجدت بالفعل مئات الأحجبة المدفونة، سواء فى مقابر قريتى أو مقابر القرى المجاورة.. وتم تصوير الحدث وبثه عبر عشرات الصفحات الموجودة بأسماء قرى مصر حاليًا، وقد صارت محطات أهلية تنقل كل ما يحدث فى قرانا لحظة بلحظة.. من الآخر ما حدش يعطس فى شرق البلد إلا وسمعه من هو فى غربها.

ولم تقتصر الحملة على قرى الصعيد.. وتكرر ظهور هؤلاء الذين يزعمون أنهم مشايخ.. وأنهم متطوعون لتطهير المقابر مما أصابها من أسحار.. وبالطبع فرح الأهل.. وأهل معظم القرى التى ذهبوا إليها، سواء فى بحرى أو قبلى.

وإذ فجأة يا صديقى أجد هؤلاء المشايخ.. وهو مجرد شاب وسيم ذو لحية مهذبة ومرسومة طرفًا فى بث لأحد المواقع الصحفية، وقد اتهمته من كانت زوجته بأنها حملت منه فى «شبح».. وأنه أجبرها على الزواج منه دون أن تدرى.. وصار لغط كبير.. واستضافت برامج تليفزيونية الفتاة الضحية التى قالت إنها زارت صفحته على «فيسبوك»؛ ليجد لها حلًا مع طليقها الذى تركها وطفلها فى حالٍ ليست جيدة.. وأنها فوجئت به فى أيام معدودة يسحبها «منومة» إلى شقته بعد غداء فى مكان عام، وأن الأمر تطور إلى عرض زواج رفضته فى البداية، ثم «سقاها حاجة أصفرا» لم تحددها، ووجدت نفسها تحت «تأثير السحر»، وقد اكتشفت بعد ذلك حملها فى «شبح».. ثم لم تقل كيف تخلصت من ذلك الحمل.. لكن كشفت عن تحويل الزواج إلى شكل رسمى وتمسك ذلك الشيخ الشبح بالحمل...إلخ من ترهات لا تعنينى مطلقًا.

ومنذ أيام صدر أمر ضبط وإحضار للشاب مع ثلاثة آخرين بتهمة ممارسة أعمال الدجل والشعوذة.. لكن يبدو أن صاحبنا لم يتم القبض عليه لوجوده فى الخارج.. فالرجل الذى كان يقوم «متطوعًا» بفك أسحار وأحجبة مقابر الأرياف، سواء فى بلده الشرقية أو غيرها صار له مريدون وأتباع بالآلاف فى الوطن العربى.. وله أصدقاء فى الخليج، زعم أنه فى زيارة لهم، وأنه عائد للقاهرة مجددًا.

وقبل أن يعود كانت جميلة أخرى تتوجه إلى القضاء بصفتها زوجته.. تتهمه بسبها وقذفها وضربها.. وتزعم هى الأخرى أنها تزوجته تحت تأثير السحر.. ولم تكشف الزوجة، التى قالت إنها تزوجته ثلاثة أشهر فقط، رفعت بعدها قضية خلع، عن أنها فعلت ذلك بعد ما اكتشفت أنه نصاب.

الملاحظة العابرة أن هؤلاء السيدات جميلات.. ومن فئات اجتماعية متعلمة وغير فقيرة.. ولديهن علاقات اجتماعية تسمح لهن باكتشاف الجيد من الردىء.. ولكنهن فى النهاية- حسب زعمهن- وقعن فى حب رجل يزعمن، الآن، أنه دجال ونصاب، وذلك تحت تأثير «الجن والعفاريت وتعاويذ السحر».

لكن ما هو ليس بعابر.. أن الأمر لم يعد مجرد شخص مثل تلك السيدة التى كنا نذهب لها فى قريتى الصغيرة، لقد صار بالآلاف.. وبعضهم يزعم حصوله على درجة الدكتوراه.. وبعضهم يضع كلمة «الإعلامى» لقبًا وصفة قبل اسمه على صفحات السوشيال التى يملكها.. فقد أصبحوا أصحاب برامج ومتابعوهم فى تلك البرامج التى يبثونها على تلك الصفحات بالملايين.

وعبثًا أن نطلب من الشرطة التفرغ لملاحقة كل هؤلاء الدجالين.. وعبثًا أن تمتلئ محاكم مصر بكل هذا الكم من البلاغات والقضايا التى تذهب بها الجميلات بغرض فضح هؤلاء أولًا والانتقام منهم ثانيًا، والحصول على الحقوق التى يدَّعين أنها لهن.. ومن العبث أيضًا أن أنكر إيمان أهلنا بوجود السحر.. وبجدوى الأحجبة.. وربما إن فعلت لاتهمت فورًا بازدراء الأديان.. فالسحر حتمًا مذكور فى القرآن.. وإن دعوت لتجاهل هؤلاء المشعوذين فربما يطلع علينا من يرى أننى أنكرت ما هو معلوم بالضرورة.

لا أعرف تحديدًا ما الذى يجب أن نفعله.. فاللاتى سقطن فى «أفخاخ هؤلاء» لسن عددًا قليلًا وصفاتهن وذواتهن وما حصلنه من علم ليس قليلًا، لكنهن فى «لحظة ضعف.. فعلن مثلما نفعل جميعًا عندما نجد حلولًا واقعية لمشكلاتنا.. الأمر لم يعد ظاهرة.. ولا مجرد حدث نحتاج إلى تعليق من الأزهر أو دار الإفتاء بشأنه.. فقط أشعر ونحن على أعتاب حرب، ربما تكون عالمية لن ننجو من توابعها الاقتصادية، على الأقل أننا نذهب بعيدًا. وأن عودتنا إلى «عقولنا» ومواضع أقدامنا قد تكون أمرًا صعبًا فى ظل تلك «الدروشة».. وتلك اللخبطة التى سقطنا فى «حبائلها»، مثلنا مثل سلمى وشيماء وأخواتهما من ضحايا ذلك الشيخ أو من هم على شاكلته.

لا أملك علاجًا.. عسى أحد منكم يملك.. عسى أحد منكم يعرف.. عسانا نجد «عصا موسى» لوقف هذه الحيات التى سرحت فى وادينا الطيب.