رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حرب الكركمين.. قنديل أم هاشم سابقًا

فى عام ١٩٤٠ كتب أحد أهم أدباء مصر الكبار، حقًا وقولًا، يحيى حقى قصة مدهشة اسمها «قنديل أم هاشم»، انتبه إليها واحد من أدباء مصر الكبار أيضًا اسمه صبرى موسى وكتب لها السيناريو والحوار لتصبح فيلمًا مهمًا من كلاسيكيات السينما المصرية التى قدمته بعد مرور ما يقرب من ربع قرن على كتابة يحيى حقى قصته.

فيلم «قنديل أم هاشم» المأخوذ عن قصة البسيط المبدع يحيى حقى الذى قدمه شكرى سرحان مع سميرة أحمد وصار طقسًا مصريًا خالصًا نستمتع به كلما أُعيد عرضه ثم نستريح وننام نحلم بست العواجز وروائح بخورها وأجواء حيها الشعبى.. ثم نعود لنمارس نفس العادات التى حاربها صاحب الرواية قبل أن تقوم الحرب العالمية الأولى بنفس الطريقة وكأن شيئًا لم يحدث.. تلك القصة وذلك الفيلم أصبحنا نعيش حكايتهما منذ سنوات بشكل مثالى عبر فضائيات بير السلم.. وتطور الأمر حتى وصل إلى قنوات محترمة، ولما انتشرت السوشيال وأصبحت لها قوة مضاعفة لقوة الفضائيات وجدنا إعلانات ذلك الوهم الذى حاربه حقى ومن بعده صبرى موسى تغرقنا ليل نهار وفى كل مكان.

ليس الكركمين وحده هو ما يذكرنا بيحيى حقى وروايته البديعة.. هناك مئات الإعلانات عن منتجات وهمية.. أو على الأقل مجهولة المصدر وغير معروفة الأضرار والتأثير فى أجساد وأكباد العباد.

قصة الكركمين الذى يعالج كل شىء.. ويقبل عليه البشر فى مصر والعالم العربى فى عالم ما بعد الألفية الثانية ليست وحدها.. وطبيب الكركمين الذى أُلقى القبض عليه منذ ساعات من قِبل ضباط المصنفات الفنية ليس وحده من يمثل ذلك الوهم الذى حاربه مفكرو مصر وعلماؤها الأجلاء منذ مائة سنة.. ولا يزالون.. هناك الآلاف من الأطباء وغيرهم من منتحلى الصفة والمدعين.

منذ شهر أو يزيد تم القبض على أحد الدجالين بمنطقة فيصل الشعبية، وقد عثروا بحوزته على مئات الآلاف من الجنيهات وأرشدت طليقته عن مقتنيات بملايين الجنيهات جمعها- وهو الحاصل على دبلوم صنايع- من خلال علاج الغلابة والأغنياء على حد سواء، تحت زعم علاجهم بالحجامة وفك السحر وجلب الحبيب وغيرها.

تلك النماذج التى تعيش بيننا جهارًا نهارًا وإعلانات منتجات الفياجرا الشعبية وعيادات علاج أمراض الذكورة وتأخر الإنجاب تملأ الشوارع فى كل شبر فى مصر.

وإذا كانت شرطة المصنفات قد تحركت وأدت دورها بعد تلقيها عشرات البلاغات ضد طبيب الكركمين بعد مطاردة إعلاناته للجميع بفجاجة منقطعة النظير.. إلا أن إدارات العلاج الحر التى تتبع وزارة الصحة فى كل القطر المصرى تعج بآلاف الشكاوى ولا أحد من مسئولى هذه الإدارات يتحرك ليتخذ موقفًا تجاه ما لديه من بلاغات.

الأمر الأهم اللافت فى تلك المسألة.. ليس انتشار هذه الظاهرة والأريحية التى يمارسها بها كل من هب ودب العمل فى سوق العلاج الشعبى.. لكنه أمر الناس الذين يصدقون ويؤمنون بالعلاج عبر تلك الموروثات التى تجد لها صدى كبيرًا فى نفوس المرضى والمحتاجين للعلاج.

لماذا نلجأ للطب الشعبى- إذا كان طبًا من الأساس- والعلاج الشعبى والأدوية البديلة رغم ذلك التطور الهائل فى طرق العلاج وأدويته التى لا آخر لها؟

هل تجبرنا الأسعار المبالغ فيها للأدوية المعتمدة والمستوردة على اللجوء لهؤلاء التجار؟.. هل نخضع لسطوة استخدام الدين أحيانًا فى اللجوء إلى هذه الكوارث؟.. هل غياب الرقابة على قطاع الصيدلة وما يجرى فيه يدفع البسطاء إلى العلاج بوصفات «أم هاشم» والكركمين؟

ما يجرى فى سوق إعلانات الدواء الشعبى يحتاج إلى تدخل عاجل وحاسم.. نعم.. ويحتاج البرلمان المصرى إلى من يتقدم إليه بتشريعات جديدة تراعى ذلك التطور الهائل فى ميديا الإعلانات عن هذه المنتجات.. وتحتاج الشرطة المصرية إلى قوات إضافية لملاحقة هؤلاء المرتزقة.. وتحتاج نقابة الأطباء فى مصر إلى تعديلات مهمة فى لوائحها لمعاقبة من ينتسبون إليها ويستخدمون تلك الأعشاب وغيرها وهم أخطر من المشايخ والمدعين.

هذا كله صحيح.. ولكن ماذا نفعل فى البشر الذين يعتقدون فى صحة هذه العلاجات ويرونها الحل لمشكلاتهم الصحية التى يعانون منها فعلًا؟.. الأزمة الأكبر فى ظنى فى ذلك العقل الجمعى الذى لا يزال يؤمن بقدرة «زيت القنديل» على علاج أمراض العيون.. وعلى قدرة الكركمين على علاج أمراض الدم والقلب والمخ.

ذلك العقل تم تجريفه وأصابته الأوبئة.. هو الذى يحتاج إلى من يستعيده.. هو الذى يحتاج إلى طب يحيى حقى وصبرى موسى.. وهذه هى العملية الأصعب.

وحتى لا يظن البعض أننى لا أُثمّن مطاردة أولئك الدجالين فهذا ما لا أريده قطعًا.. كلاهما أمر نحتاجه فورًا.. تفعيل حقيقى لقوانين محاربة تلك الإعلانات وتلك البوتيكات الرخيصة.. نحتاج إلى ضبط سوق الدواء التى تحوّلت إلى عطارة كبرى لا ضابط ولا رابط لها.

لا أنكر أهمية الأعشاب ولا فوائدها.. ولا أشكك فيما يسمونه «الطب البديل» فهذا ليس دورى على الإطلاق.. هناك من له الحق فى ذلك.. لكن سوق الدواء فى مصر أيضًا سداح مداح.. وما يفعله بعض الصيادلة يضعهم فى خانة تجار المخدرات ليس أقل من ذلك.

لقد انتبهت الجهات الرسمية فى مصر لأهمية ذلك القطاع وذهبت إلى ما هو أبعد بأن أنشأت مدينة الدواء وهى عمل إعجازى بلا شك.. لكن فوضى السوق وتحكم بعض المستوردين فيه.. ولا أكون مبالغًا حين أشير إلى وجود ما يشبه المافيا.. والمواطن العادى يلحظ ذلك عندما يذهب لشراء أى نوع دواء ويجد أنهم يخفونه لأنه بسعر معقول ويجبروننا على شراء البديل غالى السعر مضطرين، ومَنْ لا يستطيع الشراء يذهب إلى هؤلاء الدجالين عساه يجد لديهم علاجًا يشفيه.

قطاع الدواء فى مصر فى حاجة إلى تشريعات جديدة وإلى تعامل جديد.. الدواء ليس سلعة عادية مثل الفاكهة والخضار ومعلبات اللحوم والأسماك نتركه لكل من هب ودب ليتاجر فينا وفى أمراضنا.. هؤلاء الذين يتعاملون مع الدواء على اعتبار أنه سلعة فى «الهايبر ماركت» علينا أن نجد من التشريعات والآليات ما يحد من جشعهم هذا حتى لا نضطر جميعًا إلى الخروج فى مظاهرات دفاعًا عن أطباء وصيادلة الكركمين.. قناديل أم هاشم سابقًا.