رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الهجرة إلى الداخل

فى أربعينيات القرن الماضى قررت السينما المصرية أن تتعامل مع الفلاح المصرى باعتباره مصدر الخير.. وصورت حياته باعتبارها النعيم ذاته.. هكذا أراد القائمون على الأمر وقتها.. تجاهلوا عذاباته وأوجاعه وحياته البائسة لأسباب لا يعرفها سوى المخرجين والمنتجين وقتها.. ووقع شاعر مصرى كبير اسمه بيرم التونسى فى الفخ وكتب واحدة من أشهر الأغنيات التى لا يزال يتردد صداها إلى الآن وغناها فى تلك المرحلة محمد عبدالوهاب «محلاها عيشة الفلاح».

الفلاح المتهنى المرتاح.. الذى قدمه بيرم التونسى اعتذر عنه فيما بعد وندم ندمًا شديدًا عندما جاءت اللحظة الحاسمة الكاشفة التى رسمت خطًا فاصلًا بين ما هو حقيقى وما هو وهم ومحض خيال، فكان أن عدلت ثورة الثالث والعشرين من يوليو من الصورة المشوشة، وجاءت بصورة كانت فى حاجة إليها أيضًا.. صورة محمد أبوسويلم.. المكافح الشقيان الذى يقاوم حتى آخر نقطة دم وحتى آخر نفس تمسكًا بالأرض والعرض.

صورة الفلاح المصرى ليست وحدها التى تغيرت بعد يوليو.. حياته نفسها تغيرت إلى حد كبير بعدما وجد لنفسه ولحياته مكانًا فى صدارة المشهد.. إلا أن ذلك لم يدم كثيرًا.. فبعد انكسار يونيو وهزيمة ١٩٦٧ ورحيل عبدالناصر.. لم تعد الأرض كما كانت.. ولم يعد الفلاح ولا أرضه هما «مفتاح الحياة» كما أرادت لها الثورة التى انكسرت.. جاءت جيوش الانفتاح لتهدم ما كان قد تم بناؤه وتغيرت النظرة والأغنية والخريطة بمجملها.. ومع الهجوم الكاسح لمفردات السوق المفتوحة كان أن هجرنا الأرض وجرفناها لصالح الطوب الأحمر والأسمنت المسلح.. وكان أن حلت ثقافة الرحيل عن الأرض والبيت والبوابة إلى بلاد ما شاء الله.

ثقافة سبعينيات القرن الماضى راحت تبحث عما يؤيد فكرتها سواء بغناء هش ورقص مبتذل وسينما مهزوزة تدعم قيم الكسب السريع الذى لا يتناسب مع قيمة عمل الفلاح الصبور. وبحثت فى كتب التراث عمّا يدعم ذلك من أحاديث وقصص بعضها خرافى.. وزاد الأمر سخافة بانتشار النكت التى تسخر من الفلاحين وحياتهم فى مقابل حياة الهيبز ولابسى الشارلستون.

واختفى الخياطون واحدًا تلو الآخر من الريف المصرى وعمل أغلبهم فى الفاعل.. الصنايعية الكبار من «الترزية» صاروا مقاولين فى الهرم وفيصل.. ولم تعد هناك ميزة للجلباب البلدى المصرى وحلت العباءة الخليجية والجلباب الأبيض القصير بديلًا ودليلًا على السمو والجاه.

ومع الجلباب جاءت أصوات المقرئين غير المصريين لتحل محل الحصرى والطبلاوى ومصطفى إسماعيل ومحمود البنا، وغيرهم من نجوم دولة التلاوة المصرية.

وكان أن انتشرت مقولة منسوبة للإمام الشافعى مرة.. ولأستاذه الإمام مالك مرات تقول «من أراد العلا هجر القرى». وصارت المقولة التى وصلت إلى المضاجع فى كل بيوت الريف والصعيد باعتبارها وصية الإمام مالك ليس لتلميذه فقط بل لنا أيضًا.. وأضيف إليها أن «لا تسكن الريف فيذهب علمك واكتسب الدرهم. لا تكن عالة على الناس واتخذ لك ذا جاه ظهرًا لئلًا يستخف بك العامة».

ورغم أن الجملة السابقة جاءت فى شرح مختصر خليل للخرشى، إلا أنها لا وجود لها فى مدونة الإمام مالك.. وحتى الرجل الذى نقلها لم يسندها للإمام مالك. مقولة.. مجرد مقولة لا سند لها، وصمت أهل الريف بالجهل والحسد «لا تسكن الريف فيذهب علمك.. من أراد العلا هجر القرى فإن الحسد فى الريف ميراث».. وأضاف القادمون من الخليج بالمراوح والكاسيتات والعبايات والدراهم حديثًا منسوبًا للرسول «ص» لدعم رواية الشافعى المكذوبة أصلًا.. حديث الرسول الكريم كان عن «جفا البادية» ورواه الترمذى ويتحدث عن جفاء معاملة أهل البادية نظرًا لطبيعة سكنهم القاسية ولا علاقة له بأهل الريف.. لكنه صار مثل أشياء وقيم كثيرة مغلوطة سادت فكان أن هجر الريفيون أرضهم وقراهم وسكنوا المدن أولًا.. وصارت المدن العشوائية التى تصرف مصر الآن المليارات لترميمها أو هدمها وإعادة بنائها من جديد دليلًا على شكل الحياة فى بلادنا.

وكان أن جاء محافظون أساءوا هم أيضًا تقدير الأمور والكلمات، وبدلًا من تعامل حقيقى مع فوضى المحليات فى دواوينهم راحوا يدعون بشكل عنصرى زاد الطين بلة لترحيل الصعايدة من القاهرة إلى قراهم، وكأنهم «أنفار أو محتلون للعاصمة»..

الآن يحدث أن عاد البناء فى الريف.. عادت صورة الفلاح المصرى؛ لتحتل مكانها الحقيقى فى ذهن أولى الأمر.. ويتم الآن بناء مجمعات كاملة للخدمات الزراعية.. عشرات الآلاف من الأفدنة يتم استصلاحها.. ومحاصيل مصرية يجرى استنباتها.. جينات وراثية لنباتات مهمة فى خريطة النباتات تجرى عمليات متسارعة للمحافظة عليها من الإفساد والتلف فى مشروع هو الأهم للتقاوى فى مصر.. لكن يبقى أن تتغير ثقافة التعامل مع أهل الريف.. ينبغى أن تتوقف فورًا أى أعمال فنية أو درامية تسخر منهم ومن ملابسهم ولهجتهم وعاداتهم.

الثقافة التى هجرت القرى قبل أن يهجرها السكان تحتاج الآن إلى جسر للعودة قبل أن يعود البناء، فقد تغيرت الأمور كثيرًا فى تلك السنوات الصعبة ولم يعد طريق العودة ميسورًا أو ممهدًا دون أفكار تروج وتدعم هذه العودة.