رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جدتى الطيبة.. أجاثا كريستى

 

فى ١٢ يناير عام ١٩٧٦ توفيت جدتى الحنون، التى كانت تنتزعنى من جهامة الواقع وهى تهمس لى بحكايات وألغاز مثيرة، تشعرنى بأن الحياة يمكن أن تصبح ممتعة وأخاذة. جدتى العجوز الطيبة هذه هى أجاثا كريستى، التى تركت لنا ٦٦ رواية بوليسية و١٤ مجموعة قصصية باعت ما يتجاوز مليارى نسخة. وكانت فى مصر سلسلة شهرية، لا أذكر اسمها، تطبع كل شهر رواية لكريستى، وكنا ننتظر بلهفة مطلع كل شهر لنشتريها ثم نتشاجر أنا وأمى وأخواتى على أولوية القراءة حتى اتفقنا أن تكون ساعات الصباح لأمى وبقية ساعات النهار قسمة ما بيننا، إلا أن قراءة تلك الروايات ليست مسألة خاصة بعائلتنا، إذ يقبل على قراءتها ملايين القراء فى العالم، ولا بد أن وراء الشغف بالأدب البوليسى سرًا وضرورة واحتياجًا.

وقد كانت نشأة ذلك النوع أقدم بكثير من ظهور حكايات جدتى وألغازها، بل إن أديبًا عظيمًا مثل ماركيز اعتبر أن مسرحية "أوديب"، التى كتبها سوفوكليس قبل خمسمائة عام من الميلاد، أول وأروع عمل أدبى بوليسى، وفسر ذلك بأن القاتل فيها كان يبحث عن نفسه! 

وقد استخدمت أعمال أدبية أخرى الحبكة البوليسية من دون أن نعتبرها روايات بوليسية، ويمكن فى ذلك المجال الإشارة إلى "اللص والكلاب" عند نجيب محفوظ، ورواية "الجريمة والعقاب" لدى دوستويفسكى، أما تاريخ القصة البوليسية الصرف فقد بدأ مع الأمريكى إدجار آلان بو، خاصة قصته "جرائم شارع مورج" عام ١٨٤١، ومن بعده ظهرت روايات آرثر كونان دويل "شرلوك هولمز" منذ عام ١٨٨٧، وبعد ذلك وبدءًا من عشرينيات القرن الماضى تدفق نهر الروايات البوليسية بأقلام عديدة منها مارجرى إلينجهام، وجون دكسون كار، وداشييل هاميت، اعتمدت كلها على وقوع جريمة واكتشاف القاتل بفضل محقق أو شرطى، وعمليًا فإن البناء الفنى فى كل تلك الأعمال لا يتمايز إلا بحسب قدرة الأديب على خلق الحبكة ورسم الشخصيات. 

وينشغل الأدباء فى رواياتهم تلك ليس بطبيعة الجريمة الاجتماعية أو أسبابها الاقتصادية، بل بفكرة اللغز فى حد ذاته، ومتعة التحليل والتكهن والترقب وتخمين القاتل وانتظار إن كان الاستنتاج صحيحًا أم لا.

وشئنا أم أبينا فإن ذلك النوع من الروايات يندرج فى خانة الأدب، إذا كان تصورنا للأدب أشمل وأوسع من حدود الأعمال العظيمة، وإذا أدركنا أن الأدب يقوم بأدوار مختلفة على مستويات متعددة، قد تبدأ فقط بالتسلية، وصولًا إلى الأفكار العظيمة، فليس بالحتم أن تكون كل الروايات "مدام بوفارى"، ولا "آنا كارنينا"، الروايات أيضًا قد تكون "جريمة فى قطار الشرق" تأليف الجدة الطيبة أجاثا كريستى، ذلك أن هذا النوع يستجيب لحاجة رئيسية فى الطبيعة البشرية وفى نفس الإنسان، أعنى حاجته إلى الراحة واللهو والبحث عن أسباب التسلية، ومن هنا ظهرت الألعاب المعروفة لدينا كالنرد والورق والدومينو، كما ظهرت فى الأدب الشعبى الألغاز، وازداد تيار التسلية قوة فى مجال الأفلام والروايات والبرامج الترفيهية لتسد ضرورة الكف عن التفكير فى أى شىء والانقطاع للبحث عن القاتل، إلا أن ذلك التيار لم يجد مَن يجسده فى الأدب العربى، باستثناء بعض المحاولات التى لا ترقى لمستوى الأدب البوليسى فى العالم. 

وما زلتُ إلى يومنا أحتفظ فى مكتبتى بمعظم روايات أجاثا كريستى، لم أعد أقرأها، لكنى أتذكر أحداثها إذا وقع بصرى عليها، فأشعر مجددًا بأن كريستى كانت منشغلة بأن تسعدنى وأن تنتزعنى من الواقع بحكايات جدة عجوز طيبة، فلا أنسى اهتمامها ولا ما وهبتنى من البهجة والإثارة.