رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصعيد يشدو مجددًا: عندنا فَرحْ واتنصبْ

 

رغم أننا تعودنا على عدم اعتبار «الوقت» ومعاندته إلا أن طبيعة أهل الصعيد لمن يعرفونه جيدًا عكس ما هو ظاهر للعامة والسواح.

صحيح أنهم يواعدونك بقولهم «نتقابل بعد العشا».. أو بعد الضهر.. دون تحديد ساعة بعينها.. لكنهم العارفون بسر المواقيت والأشهر والأيام حتى إنهم يؤكدون لك فى أحد أهم أمثالهم الشعبية «ماتعدش الأيام.. تعاديك».

الزراعة هى سر وجودهم.. بسببها عرفوا مواعيد الغرس، وكم تحتاج كل بذرة من أيام لتنضج.. تعلموا قياس النيل.. واحترموا لغة الشمس.. هم أولاد الشمس رجالًا ونساءً.

أمهاتنا وجداتنا- من تعيش منهن أطال الله أعمارهن- يحفظن أسماء الشهور المصرية القديمة وصفاتها وتقلباتها فـ«طوبة مثلًا.. هو الشهر الذى تصير فيه العروس عرقوبة.. وأمشير أبو الزعابيب وهكذا.. سيدات الصعيد هؤلاء.. يحفظن سر الشمس التى تشرق لتمسح من على خد الزرع دموعه- نسميه نحن أبناء المدن الندى- ويعرفن اتجاهات الريح من «ظل الشمس» فإذا ذهب الظل إلى موقع ما لا يصلح أن تذهب خلفه.. ولا توجد سيدة صعيدية لا تستطيع تحديد يوم خبيزها.. فاليوم الذى لا تطلع له شمس.. هو يوم لا يخمر فيه عجينها.. الذى صرنا نسميه «العيش الشمسى»، حياتنا هناك إذن هى حياة من يعيش فى النور.. لا يعرف المراوغة.. ولا اللف ولا الدوران.. ورغم أنه لا يوجد فلاح صعيدى لا يملك موبايل الآن.. ورغم ما طرأ على حياة الريف الصعيدى من عشوائيات هجمت على أعز ما فيه وغيرت من سلوكيات ناسه.. إلا أن الأغلبية ما زالت تمارس نفس طقوسها القديمة.. وأولها مواعيد الفرح والحزن.. مواعيد العمل والراحة، مواعيد البكاء والغناء.. ولكل وقت أدان..

هذه الأيام يعيش الصعايدة بعضًا من «مواقيت الفرح.. هم لا يحبون السياسة التى نعرفها بالأحزاب وشيعها ودروبها ومدارسها وتقلباتها.. هم يعرفون «المسايسة».. هم يسايسون ظروفهم» منذ مئات السنين ليهزموا حر الصيف وبرد الشتاء القارس.. والفقر الدكر الذى طاردهم لسنوات طويلة حتى استقر فى تقارير التنمية البشرية التى لم يكن يقرأ سطورها أحد أو يهتم لأمرها أحد.

خمسون عامًا أو يزيد.. لا يعرف الصعايدة وجودًا حقيقيًا للحكومة إلا فى صورة رشاوى صغيرة تمر على قراهم كل خمس سنوات قبيل الانتخابات البرلمانية، أبرزها ما كان يحدث من توزيع لأعمدة الكهرباء لإنارة البيوت المظلمة.. ثم خطابات التعيين فى كواليس المحليات فى سنوات تالية.. ولم يزد الأمر عن ذلك، لا شك فى أنكم تعرفون ذلك كله.. وأنتم فى غنى عن سرد صور الإهمال الذى عانى منه أهلنا هناك لسنوات طويلة.. الجميع كان يعرف ولا أحد يتحرك.

ولأن الصعيدى لا يُصدق سوى اثنين.. عينه وما تراه.. والشمس وما تفضح.. فهو غالبًا لا يفرح بسهولة عندما يعده البعض بإنجاز ما.. لا يصدق ولا يأخذ موقفًا إلا عندما يشاهد بعينه.. ويلمس بيده.. ويشعر بدفء الشمس يجرى فى عروقه النافرة، وهذا ما يحدث هذه الأيام بعدما انتشر رجال مبادرة حياة كريمة فى غالبية قرى الصعيد.. يبحثون أولًا عن «أرض» صالحة لإقامة مشروعات ومجمعات خدمية.. مدارس ومستشفيات.

سمعوا فى البداية عن المبادرة.. وشاهدوا إعلاناتها فى القنوات الفضائية.. لكنهم لم يتحركوا إلا عند مشاهدتهم الرجال يشقون بطون الترع لتبطينها.. يجسون الأرض لقياس صلاحيتها لبناء مدرسة أو مستشفى أو مكتب بريد.

خمسة عشر يومًا قضيتها فى قريتى فى سوهاج.. ولا حديث الآن هناك إلا عن «حياة كريمة»، ورغم أن بعض المبانى قد شارفت على الانتهاء بالفعل.. ورغم أن محطات الصرف الصحى قد أوشكت على العمل.. بعد توقف لثلاثين سنة كاملة.. وبعدها يأتى الغاز ليحل واحدة من أكبر المشكلات التى كنا نعانى منها.. وهى توفير أنبوبة بوتاجاز- إلا أن ذلك كله وحتى هذه اللحظة يبدو حلمًا.. لا يزال البعض لا يشعر بأنه يلمس «كم جلبابه شخصيًا».. صحيح أن المئات من الشباب الذين التقيتهم بدأت أدمغتهم تعمل فى «كيف نستفيد من هذه المشروعات؟».. يعنى اللى اتبنت جنب منه مدرسة يفكر فى «فتح محل فول وطعمية أو مكتبة».. ومن جاء إلى جوار منزله مستشفى يفكر فى ترخيص صيدلية أدركوا أن فرص العمل غير المباشرة قادمة لا ريب..

«لا شىء يحدث صدفة.. وثمة مشروعات كبرى يجرى العمل فيها بالتزامن وفى وقت واحد».

لكن لغة الأرقام.. مثلها مثل «المواقيت» ينكر أهلى فى الصعيد أنهم يعرفونها.. هم يعرفون ما يجرى أمام عيونهم الآن.. ويسمعون أن ما يحدث بجوارهم وتحت أرجلهم يحدث فى قرى مجاورة.. صحيح أن هناك الكثير من التفاصيل التى يسألون عنها، والتى لم أكن أملك إجابات لها تبدو مزعجة إلى حد ما.. وهى أسئلة مشروعة قطعًا، وأبرزها ما يختص بالكوادر البشرية التى ستقوم بتشغيل كل هذا الذى نبنيه من مدارس ومستشفيات ومجمعات زراعية ومكاتب بريد ومراكز صحة مرأة.. وغيرها.. هم يسألون.. لأنهم يشعرون بأن فرحًا كبيرًا سوف يقام فى سرادقاتهم.. لأنهم على وشك الغناء مع بليغ حمدى والأبنودى: 

«يابو اللبايش يا قصب 

عندنا فرح واتنصب»

أهلى فى سوهاج.. وكل مدن الصعيد.. من حقكم أن تفرحوا.. ولكل سؤال خطر فى بالكم إجابة ستصلكم قبل أن تشرق شمس الفرح بإذن الله.. فافرحوا..