رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

واحة الفنون غير قابلة لحصار التطرف

"وأنت يا منية النفس الدائمة الخالدة يا توأم الروح في كل زمان ومكان مهما نأيت وهجرت فأذكريني".
رغم مرور أكثر من نصف قرن على سماعي تلك العبارة في قاعة سينما مصر في "طنطا" طفلًا في العاشرة، أتذكرها رغم صعوبة فهم معانيها على عقل طفل، ولكن كان تفاعلي هائلًا مع كل مشاهد الفيلم، وليست تلك العبارة فقط نظرًا لأنها المرة الأولى لأصطحابي لدور العرض السينمائي ولسحر وجمال المشاهد الرومانسية المغايرة لمشاهد دنيا الواقع من حولي، فضلًا عن متابعة حالة تفاعل الكبار من حولي ومدى تأثرهم بمشاعر أبطال العمل في كل حالاتهم الوجدانية..
ومثلي ككل الأطفال عند تعرضهم وتعاملهم مع الفنون بكل وسائطها يتعايش معها بلهفة وتفاعل إيجابي، وعليه أرى أهمية استثمار تلك الحالة من الشغف والانبهار لدى أطفالنا، حيث لن تكون هناك جدوى من محاولة غرس حب الفن فيمن تخطوا المراحل العمرية الأولى، لأنه سيكون قد تشكل مبكرًا بمجموعة من القناعات والسلوكيات الجاهزة، التي يصعب أن يحيد عنها بعد أن يصل إلى مرحلة متقدمة في العمر.
نعم، الأمر يتطلب منا وضع استراتيجية شاملة لتنمية التذوق الفني لا يقتصر دورها على مؤسسات التنشئة وأجهزة وزارة التعليم، فنحن بصدد مسئولية مجتمعية، ومن الضروري أن تشارك في الخطة جميع الوزارات المعنية، والتي تستطيع أن تقدم إضافة حقيقية، لأن هذا الأمر مشروع حياة، كما يجب أن يتم تمويل الخطة بكل ما يمكن من دعم مالي ولوجستي، فضلا عن دور الخبراء والنقاد، لإرساء القيم الثقافية والفنية في نفس المواطن المصري منذ نشأته..
لا شك أن الفن صار يمثل مناهضًا رائعًا للتطرف، ويجب أن يتعرض الطفل للعديد من أسباب التمتع بالفن ومخرجاته الإبداعية منذ الصغر لكى يحصنه ويقويه ضد الكراهية والتعصب والقتل. وهناك دراسات أكدت أن للفن عشرة أسباب للاهتمام به:  يشكل شخصية الطفل، ويشجع الإبداع، ويحسن مستواه الدراسى، ويصعد على السلم الاجتماعى، ويؤدى للثقة فى النفس، والقدرة على اتخاذ القرار والقدرة على الاهتمام، والتركيز والتعامل مع الآخر، كما يمكن فهم توجهات الطفل من خلال الفن الذى يمارسه.. 
وأتفق مع الفنان التشكيلي والناقد الفني الكبير والرائد "صلاح بيصار" عندما ذكرنا بمواقف ورأي الشيخ الإمام محمد عبده الذي كتب كثيرًا عن فوائد الفن وفعاليته نحو الارتقاء بالذوق والإحساس والوعي العام، وأنه قد بات علينا وضع مسألة الاهتمام بالفن كأولوية لا غنى عنها، وأنها ليست رفاهية أو موضوع محل نقاش، لأننا لو اعتبرنا المسألة أمنًا قوميًا؛ فإن نظرتنا لها ستأخذ منحى مغايرًا تماما؛ حيث إننا أصبحنا فعلًا في حاجة ماسة لوضع خطة طويلة الأجل لاستخدام الفن، والاستفادة منه كسلاح رادع يقف بقوة وفعالية أمام التطرف والإرهاب والأفكار المتشددة..
ولعل وقفات الرئيس عبدالفتاح السيسي وتقديره  لدور الفن والفنان والمثقف المصري في مواجهة التطرف، يكشف عن تحفيزه لدعم وعي أجهزة الدولة بخطورة وأهمية المسألة، كما يكشف كذلك عن الدور الكبير الذي ينتظره الجميع من الفن أن يلعبه.
في تصريح الرئيس السيسي الهاتفي الأخير بخصوص الفن، كان على هامش فقرة حوارية للاعلامية عزة مصطفى مع الكاتب والسيناريست عبد الرحيم كمال، حيث قال الرئيس مخاطبا كمال: “أنت شخصية رائعة تتحدث بشكل يعكس حجم من المعرفة ورقي الفكر والثقافة، وأقول لك جهز اللي أنت عايزه وأنا معاك"، وأضاف "إن الإعلام والثقافة لهم أولوية لدى الدولة، والدولة ستدعم تقديم عمل فني لتجديد الخطاب الروحي المصري. وأن الحديث عن تجديد الخطاب الروحي أمر مهم، متابعا أنه داعم لأي عمل على مستوى الدولة داخل مصر.. كما وجه الرئيس عبدالفتاح السيسى بتدقيق قاعدة البيانات الخاصة بحصر وتسجيل الفنانين بمختلف فئاتهم بالتنسيق والتعاون مع النقابات الفنية المختلفة، وذلك لشمولهم ببرامج الحماية التأمينية والرعاية الاجتماعية ضد المخاطر المتنوعة مثل الشيخوخة والعجز وغيرها، والتي قد تعيقهم عن أداء عملهم، خاصةً ما يتعلق بالعاملين بالقطاع الفني الذين لا يتمتعون بوظائف منتظمة ولا يمتلكون مصادر بديلة للدخل، وذلك بهدف توفير سبل المعيشة الكريمة لهم ولأسرهم، بما يساعد على تعزيز وحماية القوة الناعمة لمصر على الصعيد الفني والابداعي  والثقافي، والتي طالما مثلت إرثًا متميزًا لمصر في المنطقة والعالم كمنارة للفن والإبداع.
وعليه ، بات علينا الاستفادة من منتجات كل نوعيات القوى الناعمة، ومن الفنون التي لها أكبر تأثير على وعي الإنسان وروحه، وكلما كان الإنسان مشبعًا بالفن، ومفعمًا بالإحساس به، كلما سمت روحه، وصار غير قابل لسيطرة الأفكار الظلامية عليه وعلى وعيه وإدراكه وتفهمه للأمور؛ فالفن يصل بالإنسان إلى حالة بديعة من الإحساس بالجمال والفن والحياة عموما، وسيكون سلاحًا عظيمًا لو أننا وجهناه بشكل صحيح، ودفعنا أهل الفن والإبداع للمشاركة المجتمعية في مواجهة الإرهاب..
لا.. لن نسمح من جديد أن تحاصر قوى التطرف واحات الفنون والجمال والسلام، ونحن نعيش مستقبل وطن في عهد جمهورية جديدة بإذن الله.