رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جلال الموت.. وعظمة الحياة


تعلقت عيناى بالأضواء الحمراء المتحركة فوق سيارة إسعاف، تشق ظلمة الليل، فى طريقها بين حقول ريف الدلتا بمحافظة المنوفية، وصولاً إلى قرية كفر عشما فى مركز الشهداء، وكان عقلى مازال مشغولاً بتلك السيارة الأخرى، التى تشق طريقها باتجاه مدينة إدفو فى محافظة أسوان، ولم تصل بعد إلى هناك، وقد انطلقت من القاهرة قبل صلاة الجمعة، حاملة جثمان الوادع فى حياته كما فى موته، الأستاذ سيد أحمد سليمان، نائب رئيس تحرير جريدة المساء، وزميل رحلة كفاح جيل السبعينيات من صحفيى دار الجمهورية للصحافة، بينما نستشرف نحن أطراف الدلتا، برفقة جثمان زميلنا الآخر، الأستاذ محمد جاب الله، رئيس تحرير جريدة الكورة والملاعب السابق.

اليوم جمعة.. ومن دلائل الخير، أن يُقبض المرء فى يوم جمعة.. هكذا أخبرنا سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما قد علمنا على راحلينا من سوء، بل إنهما تنافسا كثيراً على محبة الناس لهما، وأنعم بها من منافسة، أولهما كان زاده هدوء جم ملأ شخصيته، ووداعة معروفة لأهل الجنوب، وشهامة هى من خصال أبناء الصعيد، وثانيهما باختراقه المباغت لنفوس من حوله، يحدثهم فى الدنيا، كما فى الدين الذى تعلم قرآنه على يد «سيدنا» فى «كُتاب» القرية، يحمل فى جنباته ما عُرِف عن أهل الريف من قدرة على الحكى بطريقة تؤثر القلوب، وقبل كل ذلك وبعده، تنافس كلاهما على الإخلاص فى عمليهما وتفانيهما عبر سنوات طوال، ربما بدأت قبل التخرج فى كلية الإعلام بجامعة القاهرة، خلال سبعينيات القرن الماضى، لم يكلا ولم يملا، بل كان العطاء سبيلهما فى الحياة، عطاء للعمل بلا حدود وعطاء للإنسانية كان له مردود، فى زمن عزّ فيه من يستطيع أن يترك بصمة فى نفوس تدمع عليه لحظة الفراق.

اثنان من الأحباء فارقانا فى يوم واحد.. لعله استكمال لاستدعاء الجيل، الذى بدأ برحيل جمال كمال مدير تحرير العدد الأسبوعى، ومحمود نافع رئيس تحرير الجمهورية الأسبق، وآخرين ممن حملوا أعباء النهوض بجريدة الجمهورية فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، مع أستاذ الجيل والمعلم الراحل محسن محمد رحمه الله ورحمهم، ورحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل والتراب متجلدين بالصبر على المهمة، متسلحين بعلم أكاديمى وخبرة انتقلت إليهم واكتسبوها على أيدى الرواد، الراحلين منهم والباقين حتى الآن أمد الله فى عمرهم حتى تحقق للجميع ما أرادوا، وكانت الجمهورية ملء السمع والبصر، ومعها تأهل هؤلاء ليكونوا قادة للجيل التالى، فى المسئولية عن كيان صحفى عملاق، أصبح واحداً من المدارس الصحفية المُعتبرة فى مصر والشرق الأوسط.

هدوء القوة، طبع تفرد به أخونا المرحوم بإذن الله سيد أحمد.. لا تسمع له صوتاً ولا يُحدث جلبة، ولكنك تشعر به وقد أحاطك من كل جانب، إيماناً منه بأن الصوت الخفيض عنوان الرسوخ والتمكن وسبيل النفاذ للآخر، حتى المرة الوحيدة التى علا فيها صوته فى اجتماع مجلس تحرير المساء، غضبة منه لله فى العمل، اعتذر عنها لزملائه ولرئيس التحرير الذى روى لى حكايتها ونحن ننتظر تجهيز جثمان جاب الله للدفن.. فلم يكن الغضب من أدبيات سيد أحمد، ولا من مفردات قاموسه الإنسانى، فلما خالفها مرة واحدة مضطراً لها، اعتذر عنها قبل أن يبرح مكانه، وتلك شيم النفوس الكبيرة، لرجال تعرف قدر نفسها وأقدار من حولها.. أما جاب الله، فقد تصالح مع نفسه، ومع عمله حتى ارتقى فيه ما كان أهلاً له، وتصالح مع مرضه ورضى بقدر الله فيه، حتى صعد إلى رحمة من ربه، ولا نزكيه على الله، ولكنه كان مثالاً للصبر فى الشدائد ومع المرض الذى أحاط به من كل جانب، فلم يضع قلمه يوماً، اللهم قبل ساعات قليلة من وفاته، عندما أصبح غير قادر على الإمساك برفيق الدرب، القلم. مازالت أضواء سيارة الأسعاف تضوى أمام عينى فى عتمة الليل الذى لفه السكون، إجلالاً لرهبة الموت السارى فى طرق المنوفية، والآخر المتجه ناحية أسوان.. ومازال عقلى شارداً فى ذكريات هذا الجيل من الصحفيين الذى أعطى بلا حدود، إيمانا منه بمؤسسته، وتعبيراً عن قدراته، وتوقاً لأن يكون أبناؤه علامات فارقة فى مهنة لا تعطى نفسها إلا لمن أرادها وحدها دون شريك، ولمن كان مستعداً للحصاد المر قبل الحلو، وأن يأتيه الحصاد بعد حين، حتى ولو كان فى نهاية العمر.. ومع ذلك، كانت دفقات الحب التى ملأت جوانح جيلنا من الصحفيين، تجاه مؤسستنا وتجاه بعضنا البعض، أكبر عطية رضينا بها ورضيت بنا، فكان الفوز دائماً برضاء النفس عن النفس، ورضاء الناس عنا، وربما رضاء الله الذى نرى آياته فيمن يرحلون حولنا.. وربما هذا ما يفتقده الجيل الحالى، الذى فقد الهوية فأخطأ الهدف، وعليه أن يصحح أوضاعه قبل فوات الأوان.. هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ.

هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.