رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر 30 يونيو.. دور إقليمي كان مفقودا

عادت مصر إلى أهلها بثورة الثلاثين من يونيو 2013.. ومعها عادت إلى دورها العربي والإقليمي خلال ثماني سنوات.. تحولات ضخمة وتأثير كبير، لا يمكن مقارنته بحجم الزمن.. فما بعد الثلاثين من يونيو اختلف تماماً عما قبله.. وتعالوا نقرأ في شهادات من كانوا يراقبون هذا البلد عن كثب، ويرصدون تحولاته بدقة، لحاجة في نفس يعقوب.. ربما طيبة عند البعض، وخبيثة عند البعض الآخر.. ولكن أمام الحقائق التي لا تُخطئها العين، أدلى كلٌ بما عنده، غير قادر على مجافاة هذه الحقائق.
تحت عنوان (هل عادت مصر إلى مقعد القيادة العربي؟)، كتب إيلي بوده، الأستاذ في قسم الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية بالجامعة العبرية في القدس، مقالاً في صحيفة (جيروزالم بوست)، أكد فيه (أن مصر اختفت من الشرق الأوسط بعد الربيع العربي عام 2011.. واضطر أي شخص اعتاد على الدور القيادي لمصر في العالم العربي، وليس فقط في عهد جمال عبد الناصر، إلى قبول حقيقة أن مصر أصبحت مجرد جهة فاعلة أخرى، في حين تولت دولاً أخرى أدواراً إقليمية.. ومن وجهة نظر مصرية، كان من المحبط أن نرى دولاً صغيرة تسرق العرض من أم الدنيا.. كما يسمي المصريون بلدهم).. ومن الصعب هنا، تحديد متى بدأ هذا التحول، (لكن نقطة التحول الأقوى كانت إنشاء منتدى غاز المتوسط في فبراير 2019، الذي يضم مصر وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية.. وقد أتاحت العمليات العسكرية بين حماس وإسرائيل في غزة، مايو 2021، لمصر فرصة أخرى لتعزيز مكانتها في المنطقة، من خلال التوسط مع حماس، ولطالما لعبت مصر دوراً رئيسياً في الوساطة بين إسرائيل وحماس، منها، على سبيل المثال، عملية الجرف الصامد عام 2014، عندما كبحت مصر جماح تل أبيب، وسعت إلى إنهاء سريع للقتال.. وفي كلتا الحالتين، لعبت مصر دوراً أساسياً في تحقيق وقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية).
وفي حين احتلت غزة والدور المصري فيها معظم العناوين الرئيسية في عواصم العالم، أصبحت السياسة الخارجية المصرية أكثر وضوحاً في المجالات الأخرى.. إحدى الساحات هي ليبيا، حيث دعمت مصر اللواء خليفة حفتر وحكومته في طبرق، ومنذ تأسيس حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس، بدعم من الأمم المتحدة، ساندت مصر هذا التحول في ليبيا، بل واستضافت رئيس الوزراء الجديد عبد الحميد الدبيبة.. ومن الآن فصاعداً، لن تشكل القوات الليبية المدعومة من تركيا وقطر تهديداً على الحدود الغربية لمصر.. كما يشير الانفتاح الأخير بين تركيا ومصر إلى اتفاقات وتفاهمات حول العديد من القضايا الخلافية التي تعكر صفو علاقتهما: ليبيا والموقف تجاه جماعة الإخوان المسلمين.
إن النشاط المتنامي لمصر في القرن الإفريقي وساحة البحر الأحمر مثير للاهتمام بنفس القدر.. دفع بناء إثيوبيا لسد النهضة مصر إلى تدفئة علاقاتها مع أوغندا والسودان وجنوب السودان والصومال وتنزانيا ومؤخراً مع جيبوتي، حيث، زار الرئيس عبد الفتاح السيسي جيبوتي الصغيرة في 27 مايو، ووقعت مصر اتفاقيات دفاعية مع دول نهر النيل: أوغندا وكينيا وبوروندي والسودان.. وفي نوفمبر 2020، انضمت إلى مجلس البحر الأحمر الذي يمثل جيبوتي وإريتريا والأردن والمملكة العربية السعودية والصومال والسودان واليمن.. ولم تكن كل هذه التحركات تهدف إلى تحدي طموحات إثيوبيا الإقليمية فحسب، بل أيضاً إلى إظهار مكانة مصر في البحر الأحمر ومضيق باب المندب.. ويقر الكاتب، في ختام المقال، أن القيادة الإقليمية تُكتسب بقوة موقفها السياسي والاقتصادي والعسكري والديموجرافي.. وقد بنت مصر في السنوات الأخيرة جيشاً كبيراً، استطاع أن يحمي بلاده من الإرهاب في سيناء.. انتهى.
وفي كريستيان ساينس مونيتور، كتب تايلور لاك، أنه خلال معظم العقد الماضي، كانت مصر منشغلة بالمخاوف الداخلية، بعد أن استوعبت ما حدث في يناير 2011، وما تلاها من ثورة في الثلاثين من يونيو 2013، إلى جانب الصدمات الاقتصادية المتكررة.. ولكن الآن، وبينما تحول الولايات المتحدة تركيزها الدبلوماسي بعيداً عن الشرق الأوسط ونحو الصين، تتقدم القاهرة إلى الأمام لجعل وجودها الإقليمي ملموساً من جديد، من ليبيا، مروراً بغزة إلى سوريا.. تسعى مصر لاستعادة دورها القديم كقائد للمنطقة.. أو كما يقول نبيل فهمي، وزير الخارجية المصري السابق، (إننا نحاول إعادة بناء بلادنا واعادة استقرارها.. وجزء من هذه العملية يستعيد الآن دورنا في المنطقة.. ولإبراز مصر بالطريقة التي نريدها كقائد، علينا أن نقدم أنفسنا كلاعب في تسوية الصراعات في المنطقة).. انتهى.
فيما قبل 30 يونيو.. عندما كانت مصر منعزلة عن القضايا الإقليمية، وجدت هذه القضايا طريقها، في نهاية المطاف، إلى المساس بمصر ووضعها في موقف دفاعي.. أما الآن، فإن مصر أدركت أن عليها أن تتولى دورها إقليمياً.. وقد أتيحت هذه الفرصة في مايو الماضي، عندما اندلعت الحرب في غزة المجاورة بين إسرائيل وجماعة حماس، وتوسطت القاهرة لوقف إطلاق النار وإنهاء الصراع الذي استمر إحدى عشر يوماً، أعرب الرئيس جو بايدن، ساعتها، عن (امتنانه الصادق) للرئيس السيسي.. وفي الأيام الأخيرة، عززت مصر وجودها في قطاع غزة، الذي يمثل حدودها الشرقية على طول شبه جزيرة سيناء، وأرسلت وفوداً أمنية رفيعة المستوى إلى هناك لضمان وقف إطلاق النار بشكل أكثر ديمومة، وتعهدت بتقديم نصف مليار دولار، وأرسلت الفرق الهندسية والمعدات الثقيلة للتحضير لإعادة الإعمار.
اكتشف الجميع مؤخراً، أن القاهرة ضرورية للاستقرار في منطقة، لا تملك إدارة بايدن الوقت اللازم لها في الوقت الحاضر، لأن (السعي إلى الوسطية والاعتدال والاستقرار، الذي تهدف إليه مصر، يخلق أرضية مشتركة ضخمة للأمريكيين والمصريين للعمل معاً.. وقد أكسب نجاح القاهرة في غزة مصر، قوة دبلوماسية تستند إليها في حلحلة قضية أخرى، تثير قلقاً مشتركاً، وهي ليبيا، حيث تكافح حكومة وحدة وطنية تشكلت مؤخراً، بمباركة القاهرة، لفرض سيطرتها على مساحات شاسعة من الأراضي.. وتأمل مصر في الحصول على دعم أمريكي أكبر للأهداف الرئيسية لتلك الحكومة: رحيل المرتزقة الأجانب، وإعادة فتح الطرق الساحلية التي تربط البلاد، وتوحيد القوات العسكرية المتنافسة.. وتتطلع القاهرة أيضاً إلى توسيع دورها كوسيط ليشمل سوريا، حيث فشل عقد من الحرب الأهلية والعقوبات القاسية التي تقودها الولايات المتحدة في الإطاحة بنظام بشار الأسد.. يقول دبلوماسيون عرب، إن مصر تقول بهدوء في واشنطن وأماكن أخرى، إن نظام الأسد، باعتباره الفاعل الوحيد القابل للتطبيق على الأرض، يجب إعادة دمجه في الحظيرة الإقليمية، وتعرض التوسط بين دمشق والحكومات الغربية.. كما توجه مصر نفوذها لدعم الحكومة العراقية من خلال تحالف ثلاثي يضم الأردن، على أمل أن يساعد التعاون والدعم الاقتصادي بغداد على فرض نفسها على الميليشيات المدعومة من إيران.
وبعد عقد من الزمن، توقف خلاله عقارب الساعة.. تبدو مصر حريصة على تنمية قوتها الدولية بشكل أكثر وضوحاً.. فنحن نتمدد عبر قارتين.. نحن موطن ربع العالم العربي.. وأي شخص يتعامل مع أو عبر الشرق الاوسط، سيمر حتماً بالمصريين، بطريقة أو بأخرى. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.