رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بين «سد إثيوبيا» ومعركة فلسطين «2»

ككل حدث مهم ينبغى التوقف أمامه بروية، ودراسة تفاعلاته وانعكاساته بدقة، يأتى حدث الصدام الدامى الذى وقع فى الأيام الماضية، والنتائج التى ترتبت على العدوان الإسرائيلى الوحشى على أبناء الشعب الفلسطينى فى غزة، والرد عليه المتمثل فى إطلاق سيل من الصواريخ من غزة على الكيان الصهيونى والأراضى الفلسطينية المحتلة، فهو حدث ليس ككل حدث، وستكون له نتائج ليست بالهينة، وآثار ستستمر توابعها فترة، وقد تكون لها أهمية قصوى على كل أطراف الصراع.

إن أخطر دلالات هذا الأمر، يتمثل فى فشل سياسة فرض الأمر الواقع بقوة السلاح والعنف والإرهاب، وهى السياسة التى اتبعتها الدولة الصهيونية منذ اغتصاب فلسطين عام ١٩٤٨ فى مواجهة العرب عمومًا، والفلسطينيين على وجه الخصوص، وتجسدت فى فظائع حرب اغتصاب فلسطين «مجازر (دير ياسين) و(كفرقاسم) وغيرها»، وعدوان إسرائيل على مصر «عام ١٩٥٦، وعام ١٩٦٧ وممارساتها الوحشية ضد الجنود المصريين، وتدميرها مدن القناة، وعدوانها على أطفال (بحر البقر) وعُمّال (أبوزعبل) وغيرهما،..»، وضرب المفاعل النووى العراقى، واجتياح بيروت واحتلال الجنوب اللبنانى، والعدوان على سوريا واغتصاب الجولان... إلخ.

وهذا السلوك مبنى على عقيدة أساسية تنتهجها العسكرية الإسرائيلية، تقضى باستخدام القوة المُفرطة الغاشمة لتحقيق الغايات الصهيونية، وإشاعة الرعب فى المنطقة من قدرة «الجيش الصهيونى الذى لا يُقهر وأذرعه الطويلة القادرة»، لفرض الإذعان على دولها وشعوبها. 

وقد كسرت القوات المسلحة المصرية بالعبور المجيد عام ١٩٧٣، جانبًا مهمًا من جوانب هذه الفكرة التى روَّجت لها أجهزة الإعلام الصهيونى والمتصهين، لكن استخدامها فى مواجهة الشعب الفلسطينى لم ينقطع، لفرض القبول بالأمر الواقع الصهيونى عليه، وجوهره، كما تريده الأوساط الإسرائيلية الحاكمة، تفريغ كل الأرض المحتلة من الفلسطينيين، أصحابها الأصليين، بالتقتيل الدائم والترويع المستمر، والتهجير والمصادرة والاستيطان والطرد وسياسات العزل «الأبارتايد»، و«تطويع» ما تبقّى منهم، بسحق هويته الوطنية، و«دمجه» فى الآلة الصهيونية، كأقلية رمزية ذات طابع «فلكلورى»، على غرار ما فعلته أمريكا مع «الهنود الحمر»، بمسلسلات الإبادة والسحق التى أنهت على الملايين منهم فى بضعة عقود، حتى أصبحوا أثرًا من بعد عين.

ولقد كانت مفاجأة المفاجآت بالنسبة لإسرائيل هو أن هذه السياسة التى استخدمت بدهاء، فى مواجهة الأجيال الفلسطينية الشابة، داخل مناطق الـ٤٨، والمناطق المحتلة، لم تمنعهم من أن يكونوا أول من شق عصا الطاعة فى الأحداث الأخيرة بانتفاضة «باب العامود» الشهيرة، وأن التحركات الأخيرة بدأت بهبة أهل القدس للدفاع عن المسجد الأقصى، وحمايته من استفزازات المستوطنين ومحاولاتهم الوقحة لاحتلاله.

ثم كانت الضربة التالية بصمود غزة فى مواجهة العدوان الصهيونى العنيف، ليس هذا وحسب، وإنما الرد بقوة عن طريق إمطار الداخل الصهيونى بوابل من الصواريخ، المُصَنَّعة محليًا، والتى تحسَّن أداؤها ومداها ودقتها كثيرًا، وبحيث رأينا فزع المستوطنين، بل حتى الجنود الذين ارتموا، فور سماعهم صفارات الإنذار، فى جوانب الشوارع، محتمين من مخاطرها.

وهو ما دفع «أدليت وايزمان»، أستاذة التاريخ فى الجامعة العبرية، لأن تكتب صارخةً فى وجه «نتنياهو» وزمرته: «لقد خدعتمونا. أنتم كذبة يا قادة إسرائيل، إسرائيل تحترق، وصواريخ غزة تنهمر على كافة إسرائيل كالمطر بل أكثر».

إن تحطُّم وفشل سياسة فرض الإذعان للأمر الواقع الصهيونى، بقوة السلاح والعنف والإرهاب، على شعوب المنطقة كافة والشعب الفلسطينى على وجه الخصوص، على نحو ما حدث فى مواجهات الأمس القريب فى فلسطين، جرس إنذار مدوى، يفرض على الجميع الانتباه إلى نتائجه وتداعياته الكبيرة فى المستقبل المنظور.محف