رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى من أسطع أمجاد كنيسة الإسكندرية «2-3»

مجمع نيقية، المنعقد عام ٣٢٥م، كان فرصة عظيمة لإظهار شخصية أثناسيوس، فكشف عن نقاء إيمانه وقوة عبقريته ومتانة أخلاقه وحماسه المشوب بالحكمة وفضيلته الوضاءة. ومدينة «نيقية» هى اليوم قرية صغيرة فى الأناضول باسم «أسنيك».

وكانت الكنيسة على وشك الدخول فى أزمة من أشق الأزمات فى تاريخها الداخلى، فكانت كنيسة الإسكندرية تمزقها ثلاثة انشقاقات على الأقل: «١» (آريوس) ترك وراءه جماعة من اليونانيين من أتباعه فى الإسكندرية يسندهم أسقف نيقوميديا عاصمة الإمبراطورية، «٢» كان هناك انشقاق على أقل أهمية ترأسه الأسقف «مليتيوس»، أسقف أسيوط، وكان قد ارتد أيام الاضطهاد الذى أثاره دقلديانوس عام ٣٠٤م، وعزله أسقف الإسكندرية لهذا السبب، «٣» كان هناك انشقاق أقل أهمية ترأسه كاهن من الإسكندرية يُدعى «كولوتوس» يتهم كنيسته بعدم التشدد فى عقاب المرتدين. لكن كانت «الآريوسية» أخطر الثلاثة إذ كانت هرطقة، أما الاثنان الآخران فكانا نوعًا من الانشقاق.

نعود إلى مجمع «نيقية» فقد دعا إلى عقده الإمبراطور قسطنطين عندما رأى استفحال الخلاف بين كنيسة الإسكندرية و«آريوس» وأتباعه واستحالة التوفيق بين الفريقين، وكان هناك خلاف أيضًا على تاريخ عيد القيامة أراد الإمبراطور قسطنطين تسويته أيضًا فى هذا المجمع. وكان أول الحسابات التى أُجريت فى هذا الشأن هو المعروف بـ«حساب الأبقطى» الذى وضعه البابا ديمتريوس، أسقف الإسكندرية الثانى عشر عام ٢٣٢م، وتبعه البابا ديونسيوس الإسكندرى ببحث آخر لاستخراج تاريخ هذا العيد. 

هناك إجماع على أن عدد الأساقفة الذين حضروا هذا المجمع هو ٣١٨ أسقفًا برئاسة الإمبراطور قسطنطين نفسه، وقد حضره البابا إلكسندروس، البطريرك ١٩، ورئيس شمامسته والشاب أثناسيوس الذى تألق فى المجمع ببلاغته وعلمه العميق بالكتب المقدسة فأفحم آريوس وأتباعه، ويخبرنا القديس «غريغوريوس النازينسى» أن أثناسيوس قد تألق فى هذا المجمع بخطبه البليغة. وقد صدق المجمع على قرار بأن تتبع الكنائس كنيسة الإسكندرية فى تحديد يوم عيد القيامة، نظرًا لتمرسها فى العلوم الفلكية.

افتتحت جلسات المجمع رسميًا يوم ٢٠ مايو، وألقى «يوسابيوس» القيصرى- أبوالتاريخ الكنسى- كلمة شكر للإمبراطور، ثم قام بتقديم «قانون إيمان»، فتصدى له أثناسيوس بتنقيح تعابيره، ويزيده بيانًا ووضوحًا، ويذكر «روفينوس» أن النقاش حول الآريوسية استمر أيامًا طويلة وكثيرًا ما كان آريوس نفسه يطلب الكلمة فتثر أقواله مجادلات، وأخيرًا وبعد نقاش طويل وهادئ أجمعت الغالبية العظمى من الأساقفة على الموافقة على قانون الإيمان، وهو المعروف باسم «قانون الإيمان النيقاوى» نسبة إلى مجمع نيقية. هذا الانتصار للإيمان الأرثوذكسى كان انتصارًا أيضًا للإمبراطور قسطنطين.

لم يظهر فضل وعلم كنيسة الإسكندرية فى صياغة قانون الإيمان فقط، فقد عهد المجمع إلى أسقف الإسكندرية مهمة عمل الحساب مقدمًا لتحديد تاريخ عيد القيامة ليذيعه على جميع الكنائس، ويؤيد ذلك سلسلة رسائل للقديس أثناسيوس تُعلن عن تحديد يوم عيد القيامة، وكانت أهم نتيجة عملية لذلك أن عيّدت كنائس الشرق فى تاريخ واحد بعد اختلافها. لكن للأسف حدث فى الآونة الأخيرة أن ارتفع بعض الأصوات الشخصية بداخل الكنيسة القبطية العريقة للتضامن مع الفاتيكان والكنائس الغربية فى الاحتفال بعيد القيامة مع أن احتفال الفاتيكان مخالف تمامًا لما استقر عليه رأى آباء مجمع نيقية. لكن ماذا نقول، ونشعر بأسف شديد لما يحدث داخل أروقة الكنيسة القبطية التى تسير فى ركب الكنيسة الكاثوليكية، بدلًا من أن تكون رائدة فى كل شىء كما كانت عليه فى أيام قوة الكنيسة.

كانت هناك أيضًا، بعد أن تكّون السلك الكهنوتى، حاجة إلى وضع بعض الأنظمة التى تنظم سلوكه والحفاظ على كرامته، وقد أقر المجمع عشرين من هذه القوانين. 

ومن بين هذه القوانين القانون الذى يمنع انتقال الأسقف من إيبارشيته إلى إيبارشية أخرى، وتلك المشكلة بدأت فى الكنيسة القبطية منذ عام ١٩٢٨ عندما انتقل الأنبا يؤانس- مطران كرسى البحيرة ووكيل الكرازة المرقسية- إلى أسقفية الإسكندرية، وبالمثل عندما يقوم من يدعى عليهم أساقفة عاميون للانتقال من مقر خدمتهم إلى كرسى الإسكندرية طمعًا فى منصب البطريركية.

أسقف الإسكندرية يجب أن يُختار من بين الآباء الرهبان فقط وليس من بين الأساقفة، من هنا كانت فترة البهاء فى الكنيسة القبطية هى الفترة «١٩٥٩- ١٩٧١» التى تم فيها اختيار الراهب التقى والناسك الحقيقى الأب مينا البراموسى المتوحد ليكون أسقفًا للإسكندرية باسم البابا كيرلس السادس البطريرك ١١٦، فكان عهده سلامًا واستقرارًا وخدمة حقيقية.

انتهى المجمع باحتفالات عظيمة ظلت للذكرى الحية الرئيسية لهذه المناسبة لبعض الذين حضروه. ورجع الوفد المصرى حاملًا معه رسالة من المجمع إلى كنيسة الإسكندرية يعلن فيها، فى تعابير كلها مجاملات، عن القرارات التى تهمها.

ونستكمل فى المقال المقبل.