رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى ذكرى من أسطع أمجاد كنيسة الإسكندرية «1-3»

 

فى عام 1978 أصدرت جمعية مار مينا للدراسات القبطية بالإسكندرية رسالتها الثامنة بعنوان «القديس أثناسيوس الرسولى مُعلم الكنيسة بابا الإسكندرية العشرون (328- 373م)» وقد قام بتحريرها رئيس الجمعية- فى ذلك الوقت- الطبيب السكندرى والمؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى «1908- 1990»، وقام بتنفيذ الغلاف بفنه المبدع وكتابة الإهداء بخطه الرائع الأستاذ بديع عبدالملك «1908 – 1979»، وكان هذا العمل آخر عمل يقوم به قبل رحيله المبارك فى 7 يناير 1979، وقد جاء فى الإهداء: «إلى روح من أسطع أمجاد كنيسة الإسكندرية، وأعظم مُعلمى الكنيسة، وإلى أبناء القبط».
نشأ أثناسيوس فى الإسكندرية من والدين مسيحيين. وُلد نحو عام 295م عندما كانت الدولة ما زالت تضطهد المسيحية، ورأى وهو صبى الاضطهاد الذى قام به الإمبراطور دقلديانوس ضد مسيحيى الإسكندرية، إذ كانت الإسكندرية فى ذلك الوقت المعمل الذى خرج منه الفكر الدينى المسيحى الذى أضاء ليس فقط على مصر، بل على جميع أنحاء الإمبراطورية الرومانية بفضل مدرستها اللاهوتية.
وكان يجلس على كرسى البطريركية بابوات جمعوا إلى القداسة تبحرًا فى العلوم اللاهوتية. وفى الوقت الذى كان الرومان الشرقيون يؤسسون فيه الإمبراطورية الرومانية الشرقية «بيزنطة» كان آباء كنيسة الإسكندرية يؤسسون دعائم اللاهوت الأرثوذكسى ويكتبون فيه الرسائل ويجمعون فيه المجامع ويشنون معارك لاهوتية ضد فلاسفة الوثنية وضد الهرطقات التى كانت تظهر بين وقت وآخر.
فلا يوجد بلد كان له تأثير عميق فى العقيدة المسيحية مثل مصر، وبعبارة أدق لا توجد مدينة كان لها أثر فى ذلك مثل الإسكندرية، بل يمكن أن تُدعى الإسكندرية قبل أى مدينة أخرى أنها صاحبة أكبر نصيب فى الجهاد للمسيحية وفى انتصارها. وفى ذلك تقول الأثرية والمؤرخة مرجريت مرى: «كان المسيحيون فى مختلف الأصقاع جماعات صغيرة متفرقة، أما مسيحيو مصر فكانوا هيئة منظمة بلغت من القوة حدًا أفضى إلى جعل المسيحية الدين الرسمى للبلاد عام 381م، ولهذا يحق لمصر أن تفخر بأنها أول قُطر مسيحى فى العالم». 
حقًا لقد أيقظت المسيحية فى المصريين الروح الوطنية التى خبأ ضوؤها تحت نير الاضطهاد الرومانى، بما جلب عليهم الكثير من المتاعب والاضطهادات الشنيعة التى استُشهد فيها أعداد لا تُحصى. هذه الروح المتأججة بلغت ذروتها منذ القرن الرابع الميلادى، وكان أثناسيوس، فيما لاقاه من اضطهادات وفى ثبات وتحديه للظلم ونضاله فى سبيل ما يعتقده أنه الحق، خير ممثل للروح المصرية هذه وفى اعتزازها بالكرامة وبأرومتها.
تعهد البابا الكسندروس «312- 328م» البطريرك 19 الشاب أثناسيوس لِما توسم فيه من ذكاء وتدين واستعداد للعلم، فأدخله مدرسة الإسكندرية اللاهوتية ليرتشف مما خلفه عمداؤها من أمثال: بانتينوس وأكليمنضس وأوريجانوس وديونيسيوس، فأظهر نبوغًا فى العلوم اللاهوتية تحت إرشاده. وفى عام 313م تاقت نفسه إلى الوحدة فى سن الثامنة عشرة فقصد البرية وتتلمذ للقديس أنطونيوس- أب رهبان العالم كله- الذى ذاعت شهرته فى ذاك الوقت لتنسكه وقداسته.
ارتقى الكسندروس كرسى أسقفية الإسكندرية فى 27 يونيو 312م، وبعد نحو خمس سنوات نادى الحبر الجليل الشيخ الوقور الشاب الناسك وجعله سكرتيره وذراعه اليمنى، وفى عام 319م جعله رئيس شمامسة، وفى عام 325م كان الشماس أثناسيوس القلب النابض لمجمع نيقية المسكونى.
وفى وسط ذلك الجو المضطرب بالمدارس الفلسفية المختلفة ظهر «أريوس» المضل، رجل متوقد الذكاء، حاضر البديهة، ولكنه مملوء مكرًا وخداعًا، يُظهر خلاف ما يُبطن ويتقن الدس والوقيعة، ليبى الأصل «256- 336م» دخل السلك الكهنوتى طمعًا فى الوصول إلى بطريركية الإسكندرية، وفى سبيل هذا الهدف أمكنه أن يخدع الباباويين القديس بطرس «302- 311م» البطريرك 17 المُلقب بـ«خاتم الشهداء» والبابا أشيلاوس «311- 312م» البطريرك 18، وأن يصل إلى رئاسة كنيسة «بوكاليا» ليجعل من هذا المنصب سُلمًا إلى أسقفية الإسكندرية. ولكن خاب أمله وانتُخب لأسقفية الإسكندرية بعد نياحة البابا آشيلاوس البطريرك 18، البابا الكسندروس البطريرك 19، فتملكه الغيظ والحقد ولم ينسَ ذلك الظلم وتلك الإهانات التى لحقته، وبدأ يناصبه العداء ويهاجم تعاليمه التى كانت فى واقع الأمر التعاليم التى تسلمتها الكنيسة وتقاليدها الموروثة. 
لا يُعرف بالضبط متى انطلقت الأريوسية من عقالها، أو بمعنى آخر متى اختلف أريوس كاهن كنيسة بوكاليا التى كانت تطل على مرفأ الإسكندرية الكبير «الميناء الشرقية الآن»، علنًا مع تعاليم أسقفه البابا الكسندروس وتلميذه الشماس أثناسيوس، إلا أن بعض المؤرخين يرجعون بدء الصدام إلى عام 318م.
تصدى البابا الكسندروس لأريوس واستنكر تعاليمه المنافية للتقليد الذى تسلمته الكنيسة، والذى تنشره مدرستها ويقوم بنشرها شخص يحسن الخطابة والنقاش وله أسلوب محبب!! وهنا مكمن الخطر إذ يجذب إليه بعض الكهنة وكذلك بعض الشعب، ولكن أريوس ظل متمسكًا فى طريق ضلاله.
هذا الاضطراب ظهر للملأ عام 318م- كما سبق القول- وهو العام الذى رجع فيه أثناسيوس إلى الإسكندرية، وهذا التوافق يجعلنا نعتقد أن البابا الكسندروس قام باستدعاء تلميذه ليساعده فى القضاء على ذلك الحدث الخطير، ومن المعتقد أنه منذ وصول أثناسيوس ليكون فى خدمة البابا الكسندروس كرئيس شمامسته، فقد اشتد ساعده وتغير سلوكه الطبيعى المعروف بالصبر والتسامح إلى الحزم وسرعة القرار. فبين عامى 320- 321م اجتمع 100 أسقف من أساقفة مصر وليبيا فى الإسكندرية وأدان أريوس وأتباعه، ويُرّجح أن أثناسيوس كان المحرك الحقيقى لهذا القرار.
ترك أريوس الإسكندرية إلى فلسطين حيث التقى زملاءه القدامى فى أنطاكية، ولأجل أن يسهل إذاعة تعاليمه كوّن نوعًا من الزجل يتغنى به الشعب بعنوان «تاليا».
نستكمل فى الحلقة المقبلة.