رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النيل في خطر: قراءة في كتاب مُهم (2)

تعود الأطماع الصهيونية في أرض ومياه وادي النيل، كما يرصد الأستاذ "كامل زهيري"، في كتابه القيِّم: "النيل في خطر"، إلى تاريخ التفكير فى المشروع الصهيوني الاستيطاني ذاته، ذلك أن القائمين على أمر التخطيط للمشروع وعلى تنفيذه، كانوا يُدركون أن نجاحه واستمراره وتقدمه، يرتبط ـ عضوياً ـ بتوفير أكبر قدر من المياه الضرورية للحياة البشرية والزراعة والتطور الاقتصادى والصناعي. 
  فوجودها يعني القدرة على استجلاب ملايين جديدة من المستوطنين المستعمرين، ويعني ضمان إعاشتهم في بيئة تعج بالصحراوات ومناطق الجدب المائي الشحيحة الأمطار.
  وقد بلغ وعيهم بهذه المعضلة تكليفهم لعلماء يهود وغربيين عديدين، حتى قبل احتلال فلسطين بعقود، للعكوف على دراسة أوضاع المياه فيى فلسطين والمناطق المحيطة، وكتابة التقارير المتضمنة اقتراحاتهم عن كيفية السيطرة على منابع الأنهار وخزانات المياه الجوفية في فلسطين وما حولها من دول وأراضٍ، وهو ما حدث بعد تأسيس "الدولة"، إذ كان شغلها الشاغل، وضع اليد ـ بشتى السُبل ـ على كل ما تستطيع اغتصابه من مصادر المياه العذبة في فلسطين، ولبنان، والأردن، وفي هضبة الجولان السورية، كما أنها عُنيت ـ بشكلٍ خاص ـ بتوجيه الأبحاث العلمية لعلمائها، إلي تطوير سُبل الري الحديث، لتوفير كل قطرة مياه ثمينة واستغلالها أفضل استغلال، ذلك أنه "إذا ما توفر الماء، فإن أحوال التربة، والصحة، والجو، يُمكن في المنطقة الصحراوية أن تستوعب عدداً كبيراً من السُكَّان"، كما ذكرت التقارير العلمية، وقد روجت دولة الاحتلال نتائج هذه الأبحاث، بعد ذلك، في دول عديدة، في آسيا وأفريقيا، وفتحت عن طريقها سُبلاً واسعة للتأثير السياسي والدبلوماسي والاقتصادي والعسكري!

  لكن الأهم من كل ذلك، إن نظر الحركة الصهيونية، لم يغب أبداً عن ماء النيل، ولم يحل دون تفكيرها المُستمر في كيفية الاستيلاء علي مايمكن الحصول عليه من هذا النهر الخيِّر المُبارك، ويقول الكاتب أن "مايُثير الذهول والأسى أن مشروع تحويل مياه النيل إلي سيناء هو فكرة قديمة ظهرت في مطلع القرن العشرين، تقدَّم بها الزعيم الصهيوني "تيودور هرتزل" عام 1903 إلى الحكومة البريطانية في عهد الملكة "فكتوريا" واللورد "سالسبوري" و"جوزيف تشمبرلن" و"أرثر بلفور"، وإلى الحكومة المصرية في عهد الخديوى "عبّاس الثاني"، و"مُصطفى باشا فهمي"، و"بطرس باشا غالي"، والمُعتمد البريطاني "اللورد كرومر". وقد بذل "هرتزل" لتحقيق المشروع نشاطاً، وأظهر دهاءً لتوطين اليهود في شبه جزيرة سيناء كنقطة وثوب إلى فلسطين"!
  ويمضي "كامل زهيري" في دق ناقوس الخطر، قائلاً: أنه "من العجيب أن تُبعث هذه الفكرة القديمة من جديد، وبعد أكثر من ستة وسبعين عاماً (الكلام يدور بعد زيارة الرئيس "السادات" للقدس المحتلة، عام 1999)، فيجري الحديث هذه الأيام (وإن كان سرّاً وتلميحاً) عن تحويل مياه النيل إلى صحراء النقب في فلسطين المحتلة عبر شبه جزيرة سيناء، وهو مشروع ـ إن صحَّ العزم عليه ـ فيه تفريط شنيع في هبة النيل لمصر، بل سيجعل مصر ـ في النهاية ـ للنيل، بعد أن كان النيل لمصر؛ وكأننا نبدأ صفحة جديدة سوداء من النفوذ الاستعماري، تشبه تلك الصفحة التي جعلت "مصر للقناة" قُرابة قرن من الزمان، بدلاً من أن تكون "القناة لمصر".
  ومن أجل التحقُّق من هذه الإمكانية على أرض الواقع، سافر "هرتزل" إلى مصر، التي وصلها يوم 23 مارس 1903، وفي لقاء مع اللورد "كرومر"، تم بعد يومين، طلب "هرتزل" بوضوح مد خط سكك حديدية إلى الأرض الموعودة في سيناء، والأهم : "إننا سوف نحتاج إلي الماء، ومن النيل" (وليس من أي مصدرٍ آخر!)، وقال مُتمسكناً ومُتظاهراً بعدم الطمع والتواضع: "نحن نطلب فقط من النيل مياه الشتاء الزائدة التي تجرى عادةً إلى البحر ولا يُستفاد منها"! كما التقي بمسئولين مصريين كبار، في مُقدمتهم "بُطرس باشا غالي"، وزير الخارجية ثم رئيس الوزراء بعد ذلك.  
  كان "هرتزل" يطمع في أن يحصل علي "أكثر من ثُلثي سيناء"، لوضع حجر الأساس في بناء دولته اليهودية، ومفتاح ذلك الوصول إلى اتفاق قاطع بشأن مد مشروعه الاستيطاني بمياه النيل، حتى يضمن له الحياة، لكن تقرير السير "ويليام أدمون جارستن"، وكيل "نظارة (وزارة) الأشغال العمومية في مصر، الذي أوكل إليه مُهمة دراسة المشروع، وإبداء الرأي التقني في طلب مدّه بمياه النيل، جاء مُخيِّباً لآمال "هرتزل"، إذ أوصى برفضه، لأنه "سيؤثر دون شك على رى الأراضى داخل مصر"، واعتمدت الحكومة المصرية على هذا الاستنتاج في رفض مشروع "هرتزل" هى الأخرى! 
  ويُفسر المؤلف، دوافع بريطانيا لرفض هذا الطلب رغم تأييدها واحتضانها للمشروع الصهيوني، بأسباب مُتعددة، أهمها فيما يخصنا، أن بريطانيا كانت قد بدأت في التوسُّع في تنظيم الرى بمصر، مع بناء خزّان أسوان الذي انتهى عام 1902، وربط الزراعة المصرية بالصناعة البريطانية، والقطن المصرى بالنسيج البريطاني، ولذا "فقد توفرت لدى بريطانيا ـ إذن ـ أسباب اقتصادية هامة لعرقلة المشروع الصهيوني (فى هذه الجزئية وحسب)، حتى لا تتهدد خططها الخاصة". لكن هذا الإخفاق لم يقعد "هرتزل" ولا دُعاة المشروع الصهيوني، عن استهداف مياه نهر النيل، وسنكمل الحديث عن هذا لاحقاً.