رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إخوان تونس و«تجييش» الشارع السياسى



إخوان تونس «حزب حركة النهضة» عجزوا عن تمرير حكومة «الحبيب الجملى» فى صيف ٢٠٢٠، لتحل محل حكومة «إلياس الفخفاخ»، التى سقطت بفعل تضارب المصالح، ما أعطى الفرصة لرئيس الجمهورية «قيس سعيد» لتسمية «هشام المشيشى» رئيسًا للوزراء من خارج مقترحات الأحزاب.
لكن العلاقة بين الرجلين سرعان ما تحولت من وُدّ وتنسيق إلى توتر وعداء، فـ«المشيشى» شكل فريقًا وزاريًا يضم مسئولين وأكاديميين بينهم بعض المقربين من الرئيس، لكنه تعرض لضغوط شديدة من الإخوان فى تمرير تشكيلته الوزارية، استنادًا إلى سيطرتهم على أحزاب الأغلبية فى البرلمان «النهضة الإخوانى، قلب تونس الليبرالى، وائتلاف الكرامة الإسلامى»، ما دفعه لإجراء تعديل وزارى يتماشى مع رؤيتهم.
الرئيس «سعيد» انتقد التعديل، مستنكرًا عدم استشارته، وجمع قادة الأحزاب السياسية، ليعرض مخرجًا دستوريًا لإزاحة «المشيشى»، غير أن الإخوان قرروا دعمه، مقابل الاستجابة لشروطهم.. وهنا بدأت الأزمة، التى لا يعرف أحد متى وكيف تنتهى.
تسكينًا للأزمة، اشترط «سعيد» على «المشيشى» عدم إجراء تعديل وزارى على الحكومة، لكن الأخير اتفق مع «الإخوان» على التعديل، واستبدل الوزراء المقربين من رئيس الجمهورية، بترشيحات تحوز قبولهم، مقابل حصوله على الثقة.
«سعيد» زار مقر وزارة الداخلية ليلة رأس السنة الميلادية الماضية، فقام «المشيشى» بإقالة الوزير توفيق شرف الدين، المقرب من الرئيس، متعللًا بأنه كان ينبغى أن يدرك أن مسئولية الرئيس تقتصر على وزارتى الدفاع والخارجية!!.. «سعيد» استقبل وزير الشئون الثقافية وليد الزيدى، مشددًا على ضرورة تمكينه من حقيبة الثقافة، لكن المشيشى سارع بسحب اسمه من التشكيل، وهو ما اعتبره «سعيد» إهانة شخصية له ولمنصبه.. الإخوان نفذوا وعدهم، ومنحوا الثقة البرلمانية للوزراء الجدد، لكن الرئيس منع صدور المرسوم الرئاسى لتعيينهم فى مناصبهم، ورفض تنظيم حفل أداء اليمين بقصر قرطاج، بذريعة وجود شبهات فساد، ما منعهم من استكمال الشرط الدستورى لتسلم مهامهم، وممارسة أعمالهم.

غياب المحكمة الدستورية التى يمكنها البت فى هذه الأزمات، زادها تعقيدًا.. التجاذبات السياسية عرقلت اختيار أعضائها منذ المصادقة على الدستور فى ٢٠١٤.. أنصار الرئيس طرحوا فكرة تطبيق «تقرير محكمة المحاسبات» عن الانتخابات البرلمانية الأخيرة لعام ٢٠١٩، الذى تضمن ارتكاب «النهضة» و«قلب تونس» تجاوزات خطيرة فى الدعاية الانتخابية، بإنفاق أكثر من عشرة أضعاف المبالغ المحددة قانونًا، ما يعنى فى حالة تطبيقه، إقالة عدد كبير من أعضاء البرلمان، وإجراء انتخابات تكميلية قد تغير المعادلة السياسية، ما يسمح بإبعاد الغنوشى وجماعته، لكن ذلك لم يتسنَ تنفيذه لاعتبارات قانونية وسياسية.. والإخوان يسعون لتحجيم دور رئيس الجمهورية أو عزله عبر المحكمة، بعد أن أبدى سعيه لاستبدال النظام الانتخابى الراهن الذى منح الأحزاب الصغرى حظوظًا للوجود فى البرلمان؛ بنظام يدفع بحزبين كبيرين يسيطران على البرلمان.
وسط حالة غير مسبوقة من الانسداد السياسى، تقدم «المشيشى» بطلب استشارة للمحكمة الإدارية بخصوص إشكالية التعديل الحكومى وأداء اليمين الدستورية للوزراء الجدد، لكنها أكدت أن النظر فى إشكاليات التعديل الحكومى مخوّلة حصريًا للمحكمة الدستورية.. استعان بمحكمة «هيئة مكافحة الفساد» المستقلة، لكنها نفت امتلاكها دلائل تبرر شبهة فساد المرشحين.. لكن منظمة «أنا يقظ» غير الحكومية والمتخصصة فى ملفات الفساد، نشرت تقارير تؤكد وجود شبهات جدية تتعلق بتضارب المصالح والفساد حولهم.. الإخوان مدعومون بأغلبيتهم البرلمانية قرروا استكمال انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية يوم ٨ أبريل المقبل، بانتخاب ٣ أعضاء فى المحكمة الدستورية، بعد انتخاب عضو وحيد من قبل، وعدم التوافق السياسى على باقى المرشحين الثلاثة، أما باقى أعضاء المحكمة وعددهم ٨ فيتقاسم تعيينهم المجلس الأعلى للقضاء، ورئاسة الجمهورية.. القرار يستهدف فى ظاهره إيجاد قناة مرجعية يمكن لها التدخل لحسم الخلاف بين رئاسة الجمهورية ورئيسى البرلمان والحكومة، لكن الحقيقة أن ذلك يمكن أن يعمق الخلاف، نظرًا لصعوبة التوافق على أعضاء المحكمة أنفسهم، وفى حالة تجاوز تلك المعضلة فسوف تبدأ محاولات التوظيف السياسى لها؛ من جانب الإخوان بهدف تقليص صلاحيات الرئيس أو الإطاحة به.. ومن جانب «سعيد» بفتح الملفات الأمنية المتعلقة بالجهاز السرى للإخوان وأنشطتهم الإرهابية فى الداخل والخارج.

خطورة الأزمة السياسية الراهنة فى تونس ترجع إلى تزامنها مع ما تشهده عدة مدن من احتجاجات تطالب بتحسين الوضع الاقتصادى.. وبدء القوى السياسية المتناحرة فى تجييش الشارع السياسى.. القضاء التونسى رفض دعوى مستعجلة تقدمت بها «عبير موسى» رئيس حزب «الدستورى الحر» لوقف أنشطة «اتحاد علماء المسلمين»، فجمعت أتباعها للاعتصام أمام مقر الاتحاد فى نوفمبر ٢٠٢٠.. ووقعت اشتباكات بين أنصارها وأنصار ائتلاف «الكرامة» الذين هرعوا للدفاع عن مقر الاتحاد.. موسى اتهمت الحكومة بتسهيل هجومهم على المعتصمين، وطالبت الرئيس بعقد جلسة لمجلس الأمن القومى، لاتخاذ الإجراءات الضرورية لحماية البلد من مخاطر تنظيم «الإخوان».. رئيس مجلس شورى «النهضة» عبدالكريم الهارونى، طالب أنصاره بمؤازرة قوات الأمن، ما أثار غضب الرأى العام، متهمينه بامتلاك ميليشيات تتدخل فى اختصاصات وزارة الداخلية المعنية بالأمن، وبالفعل خرج أنصار التنظيم للتظاهر فى ٢٧ فبراير ٢٠٢١ دفاعًا عن «الشرعية»!!، «موسى» ردت بتظاهرات واعتصامات تستهدف إسقاط الغنوشى والحكومة، ما هدد بالانفلات، ونشوب صراع داخلى عنيف.. التونسيون المؤيدون للرئيس نظموا عددًا من المظاهرات داخل العاصمة دعمًا ومساندةً لـ«سعيد»، مطالبين بحل البرلمان، وإقالة حكومة «المشيشى»، ومحاسبة الأحزاب السياسية التى «تجاوزت القانون».

نقابة المحامين التونسيين وجهت دعوة للمنظمات الفائزة بجائزة نوبل «اتحاد الشغل، منظمة رجال الأعمال والمحامين، وهيئة حقوق الإنسان» للإشراف على حوار وطنى يستهدف حلحلة الخلافات السياسية.. اتحاد الشغل تبنى المبادرة وأكد أنه يريدها دون شروط مسبقة من جميع الأطراف، بما فيها رئاسة الجمهورية.. كتل «الإصلاح» و«تحيا تونس» و«الوطنية» طلبت فى ١٨ مارس لقاءات مع رئيسى الجمهورية والحكومة، ورؤساء المنظمات الاجتماعية، للتوسط فى حل ينهى الأزمة.
راشد الغنوشى رئيس حركة «النهضة» رئيس البرلمان، دعا رئيس الجمهورية إلى تنظيم لقاء بين الرئاسات الثلاث «البرلمان والجمهورية والحكومة» يشرف عليه بنفسه، بهدف تسوية الأزمة السياسية التى تعصف بالبلاد.. و«المشيشى» دعا لإيجاد حل للأزمة قبل فوات الأوان.. مؤسسة الرئاسة رفضت المشاركة أو الإشراف فى أى حوار قبل استقالة رئيس الحكومة، وطالبت بإقصاء الأطراف التى تحوم حولها شبهات فساد من أى مشاركة، مؤكدة أن الرئيس يرفض الحوار مع من وصفهم بـ«ناهبى الشعب، والمتسببين فى إفقاره».

دستور ٢٠١٤ قضى بنظام تقاسم السلطة بين الرئاسات الثلاث، الرئيس يشرف على الشئون الخارجية والدفاع، ورئيس الحكومة يتمتع بمعظم الصلاحيات التنفيذية، ورئيس البرلمان يستحوذ على الاختصاصات التشريعية، لكن طموح كل منهم فى الانقضاض على صلاحيات الآخر أدى إلى صراعات مستمرة.. الدولة التونسية فى خطر حقيقى، نتيجة وجود رئيس حكومة أسقط هيبة رئيس الجمهورية بعزل رجالاته من التشكيل الوزارى، ورئيس برلمان يتعرض للإهانة باقتراب عريضة سحب الثقة منه من الحصول على أغلبية ١٠٩ أصوات، ما يسمح بإسقاطه، بسبب سوء إدارة العمل وتنامى العنف داخل البرلمان، كما يتعرض لحملة ضارية للإطاحة به من جانب حركة «النهضة» نفسها، حيث تبنى ١٠٠ عنصر قيادى فى مؤتمر سبتمبر ٢٠٢٠، المطالبة بعدم ترشحه مجددًا لرئاستها.
المواجهة الراهنة قد توحى بأنها بين الرئيس «سعيد» و«المشيشى»، لكنها فى الحقيقة حرب ضارية بين الرئيس و«الغنوشى».. فالرئيس يريد نظامًا رئاسيًا يتمتع فيه بصلاحيات واسعة مع دور ثانوى للأحزاب السياسية، فى حين يريد الغنوشى وحلفاؤه نظامًا برلمانيًا أكثر وضوحًا، يُحد من صلاحيات الرئيس.
الجميع استنفد الضغوط بالأساليب التقليدية، ولجأ إلى تحشيد خطير للشارع السياسى، وهو أمر بالغ الخطورة، لأنه يطرح إمكانية خروج الأمور عن السيطرة وتطورها إلى حرب أهلية، كما يعكس آثاره على الأوضاع الأمنية الهشة، والتدهور الاقتصادى المستمر.. البطالة ارتفعت خلال عام ٢٠٢٠ بسبب تسريح العمالة نتيجة أزمة كورونا، ووكالة موديز خفضت تصنيف تونس الائتمانى من B2 إلى B3، مع الاحتفاظ برؤية سلبية للمستقبل، وهو تصنيف خطير يسبق مباشرة تصنيف المخاطر العالية C وإعلان إفلاس الدولة.
غالبية حلول الأزمة تبدو وكأنها مستحيلة، بسبب تعنت الإخوان.. سحب الثقة من الحكومة تجاوزًا لأزمة عجزها عن أداء اليمين الدستورية ترفضه «النهضة» مدعومة بالأحزاب التى تكفل لها الأغلبية.. حل البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، مرفوض أيضًا، لأن شعبيتهم فى أدنى حالاتها.. القاعدة الانتخابية لحركة «النهضة» تقلصت من مليون ونصف المليون ناخب فى ٢٠١١ إلى ٥٦٠ ألفًا فى ٢٠١٩، ولم تعد تتحكم سوى فى ربع البرلمان، بعد أن نجح ائتلاف الكرامة فى استقطاب قطاع واسع من مؤيديها التقليديين، ما اضطرها للتحالف مع حزب «قلب تونس» لرجل الأعمال نبيل القروى، أحد مؤسسى «نداء تونس»، الذى يزخر بشخصيات معظمها ينتمى للنظام السابق، وهم معروفون بمعارضتهم الإسلاميين، وكان موقوفًا بتهمة الفساد وتبييض الأموال.. والجديد أن طرفى المواجهة شرعا فى محاولة توظيف القوى الخارجية فى الصراع الداخلى؛ رئيس الجمهورية استقبل سفراء الاتحاد الأوروبى لشرح تفاصيل الأزمة، ورئيس البرلمان وجه رسالة إلى الرئيس الأمريكى جو بايدن، وأجرى اتصالات بالسفير الأمريكى.

بعد أن كانت الإجابة دائمًا «تونس»، ضربت الفوضى بجذورها فى أعماق الدولة، وتحولت من نموذج ومثل يُحتذى به فى ريادة عملية التغيير السياسى والاجتماعى بالمنطقة، إلى مضرب للأمثال، فى الفوضى والرهان على تجييش الشارع، لدعم موقف الأطراف فى الصراع على السلطة بين القوى السياسية المتناحرة.. لك الله يا تونس.