رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ أحمد الرزيقى.. عبقرى التلاوة«2-3»





يقول الشيخ أحمد الرزيقى: «وتخيلت أننى لو سلكت طريق القرآن فسأكون قارئًا مشهورًا للقرآن الكريم. فرافقت القرآن مرافقة الخادم لسيده.. لأن شيخى علمنى الكثير والكثير، وكانت رعايته ترقبنى لأنه توسم فىّ خيرًا كما قال لى».
ولذلك فضله علىّ كبير، لأنه علمنى أشياء أفادتنى فى حياتى كلها. علمنى الكياسة والفطانة وكيفية التعامل مع الناس، وكيف أفكر قبل إصدار القرار، حتى فى نطق الكلمة، أتذوقها أولًا، فإذا كان طعمها مستساغًا أنطقها، ولكنها إذا كانت مرة المذاق، فسوف تكون أكثر مرارة إذا خرجت من لسانى. وعلمنى متى أتحدث، وفى أى وقت أتحدث، وكيفية احترام الكبير والصغير، فكان الكتاب جامعة داخل كتاب.
كان الشيخ محمد سليم المنشاوى أحد علماء القراءات فى مصر والوجه القبلى، قد علّم الشيخ عبدالباسط القراءات وذلك بمعهد «أصفون المطاعنة»، وكان هو شيخ المعهد فى ذلك الحين. ولثقة الجميع بالشيخ سليم، خاصة بعدما تخرج الشيخ عبدالباسط على يده، لم يتردد الشيخ أحمد الرزيقى فى الذهاب إلى الشيخ سليم.
وبـ«أصفون المطاعنة» تلقى علم القراءات وعلوم القرآن، ساعده على ذلك القرابة التى كانت تربطه بأهل أصفون، يقول الشيخ أحمد: «ولم أشعر بالغربة داخل بلدتى الثانية أصفون، نظرًا لأنهم أبناء عمومتنا، وتربطنا بهم علاقة الدم والنسب والأرحام، وكان أهل المطاعنة يطلبون من الشيخ محمد سليم زيارتى لهم، فكان يوافق الشيخ رحمه الله».
وبعد ذلك ذاع صيت الشيخ أحمد الرزيقى فى كل مدن وقرى الوجه القبلى، فانهالت عليه الدعوات ليسهر رمضان، ويحيى المآتم والمناسبات الدينية، وأصبح محل ثقة وحُب الجميع فى صعيد مصر.
ولم تتوقف الموهبة الفذة عند هذا الحد، ولكنها حملت صاحبها إلى القاهرة على أجنحة الالتزام والتقدير والاعتزاز بكتاب الله: فاشتهر فى القاهرة بين كوكبة من القراء يتنافسون بحُب فى لقاءات وسهرات من الصعب أن يحدد المستمع من هو أقوى طرفيها أو أطرافها، لأنها كانت سهرات جامعة شاملة، فى مناسبات معروفة ومحددة الزمان والمكان، يقيمها كبار تجار القاهرة فى كل المناسبات، خاصة فى المولد النبوى الشريف، ومولدى السيدة زينب والإمام الحسين.
وكان يصادف أن يُدعى اثنان أو ثلاثة فى سرادق واحد، وربما كان من هذه الأسماء الشيخ رفعت والشعشاعى وشعيشع والمنشاوى ومصطفى إسماعيل وعبدالباسط وغيرهم: فكان من الصعب أن يأتى قارئ من الأقاليم ليفرض نفسه على الساحة بين قمم جبال راسخة، ولكن الحظ وحده جعل الشيخ أحمد يسلك الطريق، وينحت فى صخور ليخط له اسمًا بفضل الله.
ثم بفضل شيخ مخلص هو المرحوم الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، الذى ساعد الشيخ أحمد الرزيقى وشجعه على القراءة بين هؤلاء العمالقة داخل مدينة القاهرة التى وقع مستمعوها تحت سيطرة محكمة من كتيبة القراء التى فتحت دنيا القراءة أمام أجيال ستظل تنهل من بحر عطاء لا ينضب ومجد لا ينتهى صنعه أصحاب المدارس الفريدة، رحمهم الله، ونفعهم بما قدموا للمسلمين والإسلام.
يقول الشيخ الرزيقى: «وذات مرة جئت إلى القاهرة وكالعادة ذهبت إلى الشيخ عبدالباسط فقال لى: (خلاص لن تعود إلى الصعيد). فقلت له: لماذا يا فضيلة الشيخ قال: (لأنك ستسهر معى وتقرأ معى حتى تشتهر وتدخل الإذاعة إن شاء الله)».
وأخذنى معه فى كل مكان، وقرأت معه فى كل المحافظات حتى ذاعت شهرتى، واستمع إلىّ كبار المسئولين بالدولة. وأذكر أننى قرأت أمام الفريق سعدالدين الشريف و د. حسن عباس زكى وفريد باشا زعلوك والأستاذ نبيل فتح الباب، فأعجبوا بتلاوتى وأدائى، وقالوا حتمًا ستكون قارئًا بالإذاعة.
يقول الشيخ أحمد الرزيقى: «جلست تحت شجرة فمسنى نسيم الهواء العليل، فحرك مراوح القلب وأنعش روحى التى استوت على حروف القرآن، لأكتب رسالة حددت مستقبلى القرآنى إلى الرئيس الراحل أنور السادات قلت فيها: الأخ العزيز الرئيس محمد أنور السادات تحية طيبة وبعد..
إنى أكتب إليك هذه الرسالة لا لأنك رئيس الجمهورية ولا على أنك الحاكم، وإنما على أنّك شقيق يشعر بآلام أخيه، وأما قصتى فهى أننى أتلو القرآن الكريم، وأتقى الله فى ذلك، وأصاحب القرآن منذ طفولتى، وجعلت نفسى خادمًا له. فلم يأل القرآن جهدًا فى إسداء النصح إلىّ، وإنى قد ذهبت إلى المسئولين بالإذاعة فقالوا لى: لن تنعقد لجنة اختبار القراء إلا بعد إزالة آثار العدوان. وها نحن الآن وقد تفضل الله علينا بإزالة آثار العدوان، وانتصرنا فى حرب أكتوبر، التى كنت أنت قائدها: فأرجو من سيادتكم التفضل باتخاذ ما ترونه من إخطار الإذاعة بأن تبعث لى بموعد اختبارى كقارئ بها».
وبعد أيام قلائل جاءنى رد الرئيس السادات على رسالتى برسالة تقول: «الأخ العزيز القارئ الشيخ أحمد الرزيقى تحية طيبة وبعد- لقد وصلتنا رسالتكم الرقيقة التى حملت بين سطورها معانى المحبة والإخلاص.. وقد اتصلنا بالإذاعة فوجدنا طلبكم موجودًا، وسترسل الإذاعة لاستدعائكم للاختبار، فأدعو الله لكم بالتوفيق، وأرجو لكم النجاح، وإخطارى بنجاحكم حتى أستمتع بالاستماع إليكم.. محمد أنور السادات».
وكانت فرحة الشيخ أحمد الرزيقى لا توصف باهتمام الرئيس السادات بخطابه والرد عليه. وركب أول قطار بعد وصول الرسالة إليه من الرئيس السادات، ووصل إلى القاهرة واتجه إلى الإذاعة، وحدد المسئولون له موعدًا لاختباره، ودخل اللجنة فى الموعد المحدد، ولكن اللجنة رأت أنه يستحق مهلة ٦ أشهر، عاد بعدها واعتمد قارئًا بالإذاعة بعد أن أثنى عليه كل أعضاء اللجنة، وحصل على تقدير الامتياز، ليصبح واحدًا من أشهر قراء القرآن الكريم بالإذاعة المصرية والإذاعات العالمية كلها.
نستكمل فى المقال المقبل.