رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أمريكا وصراعات «جمهوريات الموز»



ترامب وصل إلى الحكم عام ٢٠١٦.. ينتمى لرأسمالية قطاع الخدمات، فهو مؤسس ومالك للعديد من المشاريع العقارية والأبراج ونوادى الجولف.. أشد ما أثاره هو انتقال الرأسمالية الأمريكية بمصانعها المنتجة إلى الصين والدول الآسيوية المحيطة، للاستفادة من الفروق الشاسعة فى أجور العمال، هذا الإجراء حرم البلاد من قاعدتها الصناعية، ومس استقلالها الاقتصادى، مما يفسر الموقف العدائى لترامب تجاه الصين، واستخدامه العقوبات الاقتصادية كسلاح، ما مكّنه من النجاح فى استرداد قطاع واسع من هذه المشروعات، وهو وضع أثار غضب أصحاب المشاريع، لأنه حد من أرباحهم، فتضامنوا ضد ترامب.. تقليص الوجود العسكرى الأمريكى بالخارج «سوريا، أفغانستان والعراق»، وتوقيع اتفاقيات السلام بين إسرائيل وبعض دول المنطقة، قلل من الاحتقان، ما يحد الطلب على الأسلحة، ويوقع الخسائر بتجار الحروب، ما وضعهم فى الخندق المعادى لترامب أيضًا.
حالة الحرب ضد رجال الأعمال، دفعت ترامب لتلقى جهود بيل جيتس وروكفلر وروتشيلد، للتوصل إلى لقاح يوقف التفشى المميت لعدوى فيروس كورونا، وفق تفسيرات «خزعبلية» عن إعدادهم شرائح تتم زراعتها فى الجسم للتحكم فى البشر!، ومقولات عن التلاعب فى التركيب الجينى للمخلوقات، وهمهمات تتعلق بالسعى لإيقاع ملايين الوفيات للحد من الكثافات السكانية بالعالم.. هذه الأقاويل رسخت فى وجدان ترامب، رغم اعتراف الصين بأنها صنعت لقاحاتها بالطرق التقليدية، التى تعتمد على الحقن بفيروسات ضعيفة لاستثارة الجهاز المناعى لتكوين أجسام مضادة، لأنها تفتقد تكنولوجيا الجينات المتقدمة التى استخدمتها مودرنا وفايزر، وأنها بصدد تطويرها، لذلك أبدى ترامب عداءه لكل الإجراءات الاحترازية، خاصة الكمامة والتباعد الاجتماعى، وعندما أدرك خطورة ذلك على شعبيته، فى ظل رهان بايدن عليهما، بدأ يغير توجهاته، لكن عمالقة اللقاحات عطلوا الإعلان عن أى كشف حتى انتهت الانتخابات، كى لا يوظفها لحسابه.. المعركة ضارية بين عتاة الرأسمالية فى الولايات المتحدة.
ترامب حصل فى انتخابات ٢٠٢٠ على عدد أصوات أكبر مما حصل عليه عام ٢٠١٦، وتمكن من الحصول على تمثيل ساحق فى أغلب ولايات الوسط، حيث تتركز الطبقة الوسطى من الأمريكيين البيض، التى أنهكتها التغيرات الاقتصادية خلال العقدين الماضيين.. هذه المجموعات المختلفة التى كانت العمود الفقرى للظاهرة الترامبية أصبحت تمثل معارضة كبيرة وغاضبة للسلطة الفيدرالية، نتيجة عدد من المؤشرات المرتبطة بسوء توزيع الثروة؛ ١٪ من الشعب الأمريكى يمتلك ٤٠٪ من الثروة، ٤٠٠ مليونير يمتلكون أكثر مما يمتلكه ١٥٠ مليون أمريكى، و٨٠٪ من الشعب لا يمتلك سوى ٧٪ من الثروة.. وما زاد الطين بِلة، التأثيرات السلبية لفيروس كورونا، التى أوصلت عدد من يتلقون إعانات الدولة للبطالة إلى ٤٧ مليونًا، وهو رقم يزيد عشر مرات على مثيله قبل الجائحة.. والمأساة أن ١٥٪ من أفراد الشعب لا يطمئنون لإمكانية الحصول على وجبتهم التالية.. هذه المؤشرات أدت إلى حالة احتقان قابلة للانفجار، وهو ما حدث بالفعل.

المعركة الانتخابية اتسمت بالقذارة، واستخدمت فيها كل الأوراق.. «مارى ترامب»، ابنة شقيق الرئيس الأمريكى، أكدت قبل الانتخابات أنه فى حالة فوز بايدن، فإن عمها «سيحرق كل شىء»، وسيحاول دفع البلاد نحو الفوضى والانقسام، كما عبرت بعد الانتخابات عن قلقها من محاولته الإقدام على مغامرة حمقاء قبل مغادرة البيت الأبيض!.. كل ذلك ضاعف قلق ترامب، فحاول عرقلة فوز بايدن بإبطال التصويت عبر البريد وسط ظروف الوباء، ما أثار معارضة شديدة، كما ابتلع الطعم الذى بثه عدد من المروجين لنظريات المؤامرة «المحامية سيدنى باول ومايكل فلين، مستشار الأمن القومى السابق».. الأخير اقترح إعلان «الأحكام العرفية» للحيلولة دون تسلم بايدن منصبه، مستندًا إلى وقائع فردية أثارت الريبة بشأن مؤامرة واسعة، عززتها المكالمة المسربة لوزير خارجية ولاية جورجيا الجمهورى وهو يمارس الضغوط على المسئولين لقلب نتيجة الانتخابات لصالح بايدن، ما دعا ترامب للسخرية «لا أصدق أنه جمهورى».
ردود الأفعال الأولية لهزيمة ترامب اعتمدت على المواجهة بأدوات قانونية، للطعن على النتائج فى عدة ولايات، لكنه عجز عن تقديم أدلة تثبت صحة ادعاءاته بحدوث تزوير واسع النطاق، ورغم تسديده ثلاثة ملايين دولار لإعادة الفرز فى مقاطعتين من ولاية ويسكنسن وحدها، كانت النتيجة اتساع الفارق لصالح بايدن، أما فى جورجيا فقد أُعيد الفرز اليدوى مرتين، وفى كل مرة تتأكد هزيمته.. ومما فاقم من خسارته، أنه منذ إعلان ترامب رفضه الإقرار بهزيمته فى الانتخابات الرئاسية نوفمبر ٢٠٢٠، انقلب عدد من وسائل الإعلام «المحافظة» عليه، بعد أن كان من أشد مؤيديه.. صحيفة «نيويورك بوست»، ذات التوجهات اليمينية، اعتبرت موقف ترامب أشبه بمحاولة «التشجيع على انقلاب غير ديمقراطى».
ترامب بعد أن أعيته الحيل القانونية لإبطال نتيجة الانتخابات، وإقرار المحكمة العليا صحة فوز بايدن، حاول الضغط على الكونجرس لرفض الفرز الأخير لأصوات الهيئة الناخبة للولايات، حتى يمكن التشكيك فى النتيجة.. حث مايك بنس، نائب الرئيس، والأعضاء الجمهوريين فى الكونجرس لعدم المصادقة على فوز بايدن فى الجلسة المراسمية التى تعقد لهذا الغرض، وعندما لم يجد تجاوبًا، سعى لإلغاء الجلسة بحض مؤيديه على التجمع فى واشنطن يوم ٦ يناير ٢٠٢١، للضغط على الكونجرس من أجل عدم المصادقة على النتيجة، واصفًا الانتخابات بأنها «أكبر عملية احتيال فى تاريخ أمتنا»، ووجه دعوته «أوقفوا السرقة»، متحديًا «لن نستسلم أبدًا ولن نتنازل»، وكأنها دعوة للحرب.
التحريض على اقتحام مبنى الكابيتول السيادى ما كان له أن يؤدى سوى إلى العنف، فى ظل حالة الاحتقان الناتجة عن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وما تم رصده خلال تظاهرة ١٢ ديسمبر ٢٠٢٠ من مشاركة مجموعة «براود بويز»، وتعرض العديد من الأشخاص للطعن.. والحقيقة أن سهولة اقتحام المبنى طرحت علامات استفهام، وأثارت تساؤلات تتعلق بما إذا كان هناك تواطؤ من عدمه، مما يفسر دعوة بيلوسى رئيس شرطة حماية الكابيتول لتقديم استقالته، بسبب ما بدا أنه قصور بالغ فى الأداء.. وبعد أن نجحت وحدات الحرس الوطنى وقوات إنفاذ القانون الفيدرالية فى السيطرة على الأوضاع، أدرك ترامب أن محاولاته باءت بالفشل، وتراجع مؤكدًا أنه مثل كل الأمريكيين يشعر «بغضب من العنف، وانعدام سيادة القانون والفوضى التى اقترنت باقتحام مبنى الكابيتول»، وأعلن موافقته على تسهيل الانتقال السلس للسلطة فى ٢٠ يناير.
بيلوسى شاركت ترامب فى السقوط السياسى، عندما طالبت مارك ميلى، رئيس أركان الجيش الأمريكى، بمنع الرئيس ترامب من استخدام الرموز النووية، ما شكل اعتداءً على صلاحيات السلطة التنفيذية، وانتهاكًا لمبدأ الفصل بين السلطات، وتهديدًا بالغ الخطورة بالأمن القومى الأمريكى، حال الحاجة إلى رد فورى ردًا على تعرض واشنطن لهجوم خارجى استغلالًا لحالة السيولة السائدة، فضلًا عن أنه يعتبر هدمًا للنظام السياسى الأمريكى، خاصة أنه اقترن بالسعى لتجريد رئيس الجمهورية من صلاحياته، دون اتباع الإجراءات الواجبة، وذلك قبل أيام تُعد على اليدين من انتهاء ولايته.. ترامب رد برفع السرية عن ٢٨٤ وثيقة من ملفات «FBI»، كانت مصنفة «سرى»، تتناول فساد «توماس داليساندرو»، والد رئيسة البرلمان الحالية «نانسى بيلوسى»، وهو ديمقراطى من أبوين إيطاليين، وعمل ١٢ عامًا فى الخمسينيات عمدة لمدينة «بالتيمور»، حيث كان مدعومًا من المافيا الإيطالية وتواطأ معهم، إضافة إلى الشكوك المتعلقة بعلاقة ابنه وابنته «بيلوسى» بتلك المافيا!.. جرائم ترامب وسقطات بيلوسى غير مسبوقة فى التاريخ الأمريكى.

الأزمة سببت شرخًا قويًا داخل الحزب الجمهورى، نتيجة رفض بعض الجمهوريين انقلاب ترامب على نتائج الانتخابات، واستمرار البعض الآخر على تأييدهم له.. الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عبّر عن استيائه، ووصف ما جرى بأنه يليق بـ«جمهوريات الموز».. ترامب كانت أمامه الفرصة ليدعم قوة الجمهوريين، ما يمهد له الطريق لعودة مستقبلية إلى البيت الأبيض، لكنه تجاهل انتخابات الكونجرس، خاصة فى جولة الإعادة ببعض الولايات المحورية مثل جورجيا، ما أدى للإطاحة بحزبه، ليحظى بايدن بمجلس شيوخ ديمقراطى، يوافق دون مناقشة على قراراته.. ترامب انساق وراء نظرية المؤامرة، فأطيح به خارج السلطة تمامًا.. والأخطر أن سيطرة الديمقراطيين على المؤسستين، التشريعية والتنفيذية، تهدده بـ«جلسات استماع وتحقيقات» لا نهاية لها على مدار السنوات المقبلة، خاصة أن المدعية العامة لولاية نيويورك وصفت ما حدث أمام الكونجرس بأنه محاولة انقلابية عنيفة بدأها ترامب.
أخيرًا، فإن ترامب قد يسعى للهروب إلى الأمام، بمحاولة تأسيس حزب جديد منشق عن الجمهورى، ما يعنى أن الظاهرة الترامبية مستمرة، وربما تحول ترامب إلى زعيم شعبى ومحرض ثورى قادر على إثارة الاضطرابات فى البلاد، خاصة بعد أن وفر له مكتب التحقيقات الفيدرالى الحصانة بالتحذير من اندلاع احتجاجات عنيفة من قبل مجموعات مسلحة إذا جرى عزل ترامب.
الجدير بالمتابعة، هو ذلك التطور فى دور وسائل التواصل الاجتماعى، فبعد أن كانت وسيلة لحشد مَن أهدروا قيم الحرية والديمقراطية إبان اقتحام مبنى الكابيتول، حذف «تويتر» ما نشره ترامب على حساب رئيس الولايات المتحدة الرسمى، معلنًا تجميد الحساب الرئاسى مؤقتًا، لمنعه من الالتفاف على حظر حسابه الشخصى.. «تويتر» أهدر هيبة المؤسسة الرسمية للرئاسة الأمريكية، وأقحم نفسه طرفًا فى المعركة السياسية بالداخل الأمريكى.. وسائل التواصل الاجتماعى تسعى للتحول إلى سلطة خامسة، تفرض رؤيتها وتكمم الأصوات.. وهذا تطور لو تعلمون خطير.