رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جيش مصر يوارى أحلام «قمبيز» ثرى بحر الرمال العظيم



تناولنا فى الأسابيع الماضية سبعة مقالات تتعلق بالتهديدات التركية والإثيوبية لمصر.. إيران ثالث الدول الواقعة على أطراف المنطقة العربية، المخاطر التى كانت تمثلها فى العصر القديم أمكن حصر بعض تفاصيلها بصعوبة بالغة، لأن الفرس قاموا بتشويه التاريخ، تخلصًا من عار الهزائم التى ألحقتها بهم مصر.
المعنى اللغوى لكلمة بلاد «فارس» هو بلاد «الغزاة».. التوراة وصفت الفرس بأنهم «أناس برابرة وسفاحين لا يرحمون أحدًا»، مثلهم مثل البرابرة الأتراك، وكأنه قد قُدر للمنطقة العربية أن تحاصرها قبائل البرابرة من كل الأطراف.
الملك قورش العظيم أكبر أباطرة الفرس فى التاريخ وابنه قمبيز، سيطرا على بابل فى العراق وعلى أرض الشام، وفينيقية التى امتدت على الساحل الشرقى للمتوسط «سوريا، لبنان، وفلسطين»، فتحولت فارس إلى «الإمبراطورية الإخمينية».. حليفا مصر فى المنطقة: «كرويسوس» ملك ليديا «فى غرب الأناضول»، و«بيلوكراتيس» حاكم إمارة ساموس «إحدى الجزر اليونانية»، سقطا فى قبضة الفرس، وبقيت مصر وحدها مع حلفائها الإغريق.. قورش حلم بضم الدولة المصرية إلى حكمه، لكى يكتمل له حكم العالم القديم، إلا أن ذلك الحلم لم يكتمل فى حياته.. عندما تولى ابنه قمبيز الثانى الحكم بعث لفرعون مصر حينها «أحمس الثانى» عام ٥٢٥ ق. م، يطلب منه أن يزوجه ابنته حتى يضمن عرش مصر دون حروب، لكنّ أحمس كره أن يُزوج ابنته من قمبيز، فتحايل عليه وأرسل له ابنة الفرعون السابق عليه «أبريس».. وعندما اكتشف قمبيز الخدعة أصابه الحنق وقرر غزو مصر.
مصر فى عهد أحمس الثانى كانت فى حالة استقرار وتقدم كبيرين، استقطبت أعدادًا كبيرة من الإغريق- حلفاء مصر- للاستيطان والعمل، بعضهم تبوأ مناصب مهمة، وأسندت له مهام حساسة، والبعض الآخر انضم للجيش المصرى كمحاربين وصلوا لمواقع قيادية، لكن معظمهم تعالى على المصريين، وبدأوا فى سرقة أموالهم وثرواتهم، وامتد ذلك إلى حقول الزبرجد التى يمتلكونها بمدينتى ساس وبوتو، ما أثار غضب المصريين، وأحدث حالة من عدم الاستقرار الاقتصادى، كما بدرت تجاوزات من بعض القادة بالجيش، بينهم أحد أفراد نخبة حرس الملك أحمس، ويدعى «فانيس»، الذى انشق وهرب من مصر إلى فارس، بسبب خلافات مع الملك أحمس، لينضم إلى صفوف جيش قمبيز، ويقدم له معلومات سرية عن خطط المصريين فى الحروب، وأسرار مواجهاتهم القوية لأعدائهم، ما يمكنهم من النصر فى حروبهم، كما دل قمبيز على الطرق والمسالك السهلة التى تمكنه من الوصول إلى حصون الفراعنة بسهولة، وحدد له مواقع كمائن وحاميات الجيش المصرى على الطرق الصحراوية.
قمبيز تحرك على رأس جيش قوامه ٤٠ ألف جندى، بطول ساحل البحر المتوسط، بمساندة بحرية من الأسطول الفينيقى، ودخل صحراء سيناء، وقدم لقبائلها البدوية الذهب والعطايا لكى تمد جيشه بالمياه والطعام، واعتمد بصورة رئيسية على المدعو «فانيس»، حتى بلغ مدينة بيلوسيوم «الفارما» شمال غرب سيناء فى موقع بورسعيد الحالية، فتغلب على الحامية المصرية فيها، رغم خسارته أكثر من ١٥ ألف جندى نتيجة مقاومتها الجبارة، واستكمل متجهًا إلى «منفيس» التى تقع بالجيزة قرب سقارة، لكنه دفع رسله ليقنعوا المصريين بالاستسلام، وكان الرد أن قتلوهم مع الحامية العسكرية التى تؤمنهم، وأعادوا جثثهم جميعًا إلى قمبيز مؤكدين مواصلتهم القتال.
حاول قمبيز اقتحام «منفيس» لكنه فشل، فقام بحصارها عدة أشهر، ومنع عنها أى إمدادات بالمواد التموينية والأسلحة، حتى تمكن من دخولها، وقام بقتل عجل أبيس الذى عبده المصريون آنذاك كرمز لروح الإله بتاح على الأرض، وهو إله الصناعة والفنون والابتكار، وفقًا للمعتقدات الفرعونية القديمة.. كانت عملية القتل علنية أمام حشد من الجماهير، حيث تم قطع الشريان الرئيسى فى فخذ العجل، وتركوه ينزف حتى قضى، ليزعزعوا ثقة المصريين فى أنفسهم وفى قيادتهم وآلهتهم.. الجيش المصرى كان يتجمع فى الجنوب، فدفع قمبيز جيشه على امتداد نهر النيل، ليسيطر على برّ مصر بالكامل، بينما توجه هو إلى «صان الحجر» عاصمة مصر السياسية آنذاك ليتوج فرعونًا، قبل أن يلحق بجيشه ليقوده لإخضاع جنوب مصر، لكنه هُزم فى معركة «مملكة كوش» النوبية، وشاهد جنوده يؤكلون أحياءً، ففر هاربًا مذعورًا ليعود ويتحصن فى منفيس.
بلغ إلى علم قمبيز أن المصريين قد أقاموا مركزًا سريًا لقيادة العمليات قرب معبد آمون فى الواحات الداخلة بالصحراء الغربية، يجتمع فيه قادة التشكيلات العسكرية القادمون من الدلتا، ليضعوا خطة طرد الفرس من مصر بالكامل.. كهنة المعبد شاركوهم جهد الدفاع عن الوطن، بتسريب عمدى، لنبوءة تؤكد أن جيش قمبيز ستتم إبادته بالكامل فى الواحات، وذلك بهدف استفزاز قمبيز واستدراجه، وهو ما أزعجه بشدة وأثَّر على معنويات قواته، فابتلع الطعم، وقاد جيشه كاملًا فى طريقه إلى الواحات، وكان قد بلغ قرابة ٥٠.٠٠٠ جندى نتيجة إمداده بدعم جديد من بلاد فارس.. إلا أنه بمجرد وصوله إلى المنطقة هبت رياح رملية عاصفة، وكأنها نقمة الرب، التى أجاد الجيش المصرى المناورة والخداع خلالها، وتمكن من هزيمة جيش الفرس بقيادة قمبيز.. بحثوا أولًا عن «فانيس» الدليل الإغريقى الخائن، الذى ساعد الفرس على دخول مصر، وقتلوه مع كل الفرقة العسكرية التابعة له، ومثلوا بجثثهم، ثم أبادوا كل جنود الجيش الفارسى، حتى لم يبق منهم على قيد الحياة من يروى عن قهرهم أى تفاصيل.
أما قمبيز نفسه فقد صدرت تعليمات قائد الجيش المصرى بتيسير طريق الهروب له، فى طريق العودة إلى بلاد «فارس»، وأرسل خلفه نخبة من جنود القوات الخاصة المتخصصين فى الاغتيالات، وكلما اختار قمبيز مكانًا للتخييم كانوا يتسللون ويقتلون حرسه الخاص ذبحًا داخل خيمته، فيستيقظ قمبيز كل صباح ليجد أقرب رجاله منحورين، فأصيب بهيستريا الهلع والفزع والذعر، حتى تم فى النهاية أسره، وقطع وريد فخذه بخنجر مسموم، بنفس الطريقة التى نفذها هو عندما قتل عجل أبيس فى منف، نكاية فيمن كانوا يقدسونه، ثم أطلقوا سراحه.. ومات قمبيز مسمومًا نازفًا على الحدود بين سوريا والعراق، قبل أن يصل إلى بلاد فارس.
الحملة الفارسية على مصر انتهت بالفشل الذريع، وأوفد الفرس سرًا إلى الصحراء الغربية، مجموعة متخصصة فى اقتفاء الأثر، تسللت وقامت بمحو جزء كبير من النقوش الهيروغليفية التى أكدت الهزيمة المذلة لجيش قمبيز، لينسبوها إلى عاصفة صحراوية.. «هيرودوت» المؤرخ الإغريقى الشهير، بعد اختفاء جيش الفرس بخمسة وسبعين عامًا قال إن الجيش الفارسى قد تعرض لعاصفة رملية شديدة ولم يعد من الصحراء، لكن عالم المصريات الهولندى «أولاف كابر» أعلن عن اكتشافات أثرية بالواحات أكدت أن الجيش الفارسى قد لقى هزيمة نكراء أمام الجيش المصرى بقيادة الملك «بيتوباستيس الثالث» عام ٥٢٤ قبل الميلاد.

الفرس بقيادة «أرياندس» هاجموا مصر عام ٥١٤ ق. م، مخترقين الهدنة التى تم توقيعها فى أعقاب مقتل قمبيز، ودخلوا إلى منطقة شرق الدلتا، مستهدفين إضعاف جبهة الإغريق الذين كانوا يضغطون عليهم من الشمال، «أحمس بن بیان حور» قائد الجیش المصرى تصدى لهم، ووضع خطة ذكیة تغلب بها على تفوقهم العددى، وذلك بشن هجوم مباغت أربكهم، ونجح فى إبادة ثلثى الجیش الفارسى وأسر قائده، وتم استدعاء ملك فارس المدعو دارا «داريوش» للحضور بنفسه ليمثل أمام شعب مصر، وعندما حضر إلى منف أبدى فروض الطاعة والولاء، وقدم القرابین للآلهة فى المعابد، وقرر إعدام «أرياندس» أمام المصريین حفاظًا على الهدنة معهم.

الجيش الفارسى بقيادة خشيار شاه الأول زحف على مصر عام ٤٨٥ ق. م، تصدى له الجيش المصرى فى معركة «مارى»، بموقع حصون مريوط بالإسكندرية حالیًا، لكنه تمكن من دخول مدن الدلتا، وخرَّب كل ما أصلحه أبوه دارا الأول من جسور تواصل، وحرق الكثیر من المعابد، وعین شقیقه الثانى «أخمینس» حاكمًا.. تدهورت الأوضاع لسنوات، ولكن عندما أصبح القائد «إيناروس» مساعدًا للملك «أمون حر الأول»، تمكن من إعادة بناء مصر، وحشد جیشًا كبيرًا، خاض معركتین حربیتین فى عام ٤٦٠ ق. م، إحداهما بحریة على شواطئ الإسكندرية بقیادة «أمون»، والأخرى برية عُرِفت بمعركة «بابريمس» فى شرق الدلتا بقیادة «إيناروس»، حققا فيهما انتصارًا ساحقًا، ملك النوبة قام بمطاردة الفرس فى اتجاه دلتا النيل، لیستقبلهم «إيناروس» بمذبحة دموية عارمة فى موقعة «بابريمس» التى قتل فيها «أخمینس» الوالى الفارسى شقیق خشيار شاه الأول، وتم تطهير دلتا مصر بالكامل من الفرس.. «أرتبانوس» قائد حرس الملك خشيار شاه الأول قام باغتياله انتقامًا لخسارته الفادحة فى مصر.

أهم ما يمكن رصده من تتبع تلك الجولات المتعاقبة من الحروب فى تاريخ العلاقة بين مصر وبلاد فارس، هو خصوصية العلاقة بين مصر واليونان «بلاد الإغريق»، وتحالفهما فى مواجهة المخاطر القادمة من بلاد فارس، حتى إن الإسكندر المقدونى قاد حملة عسكرية عقب تهديد فارس لمصر، تمكنت من هدم الإمبراطورية الفارسية والقضاء عليها نهائيًا عام ٣٣١ ق. م.. الاندماج والتحالف بين الحضارة الفرعونیة والحضارة الإغريقیة بمختلف فنونها، كان ضرورة حتمية لمواجهة البرابرة الفرس، وهو نفس ما يجرى حاليًا من تحالف مصرى يونانى فى مواجهة التهديدات والمخاطر التى يمثلها البرابرة الأتراك.
هل تغيَّر وجه العداء الفارسى لمصر، عندما نشأت الدولة الحديثة فى إيران؟!.. سنتناول هذا الجمعة المقبل إن شاء الله.
ولكن قبل أن أنهى مقالى أشير إلى أنه بمناسبة تناولنا سلسلة مقالات خاصة بتهديدات دول الأطراف، طرح أحد المتابعين سؤالًا يتعلق بالمصالحة الراهنة وما إذا كان يمكن أن تُنهى العداءات من عدمه.. ورغم أن هذا ليس موضعه، أود التأكيد أن مصر تقدر ما قد تفرضه الضرورات الاستراتيجية، لكنها لا تنبطح لوعود، ولا تهرول لإملاءات، والجميع يعلم أنه لا موضع للمقايضة على دماء شهدائنا الأبرار.. رحمهم الله جميعًا.