رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اختراق مصر الدبلوماسى لطرابلس يستبق التصعيد التركى



وفد اللجنة المصرية المعنية بالملف الليبى، برئاسة اللواء أيمن بديع، زار طرابلس فى ٢٧ ديسمبر ٢٠٢٠، لأول مرة منذ ست سنوات، وأجرى محادثات رسمية مع أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسى، وفتحى باشاغا، وزير الداخلية، وعماد الطرابلسى، رئيس المخابرات، ومحمد سيالة، وزير الخارجية.. التوجه المصرى مجرد بداية لما ما بعدها، وقد أعقب الزيارة اتصال مباشر بين سامح شكرى، وزير الخارجية المصرى، وسيالة وزير خارجية الوفاق، تأكيدًا لاهتمام مصر بالملف الليبى، وحرصها على دعم الاستقرار فيها.
الزيارة أسفرت عن اتفاق على برمجة سلسلة من الاجتماعات بين الخبراء والمختصين من وزارتى الخارجية والوزارات الأخرى فى البلدين؛ لتنمية التعاون المشترك، الجانب الليبى طالب بتفعيل الاتفاق المشترك المتعلق بالحريات الأربع، بالإضافة إلى وضع حلول عاجلة لاستئناف الرحلات الجوية الليبية إلى القاهرة، وفتح الملاحة البحرية بين البلدين، ومراجعة رسوم الإقامة للمواطنين، وتقديم الخدمات القنصلية من داخل طرابلس، وقد وعد الوفد بإعادة فتح السفارة المصرية بطرابلس فى أقرب فرصة.
زيارة الوفد المصرى قدمت الوجه الآخر لسياسات دول الإقليم تجاه ليبيا، بما يخالف سياسات التصعيد التركية.. المهمة استهدفت فى الأساس منع الانزلاق نحو الصدام العسكرى من جديد، بعد أن تم رصد تحشدات لميليشيات الوفاق غرب سرت، واجهته حشود مقابلة من جانب الجيش الوطنى، ما كان يهدد بإرباك المشهد من جديد.. وقد حملت الزيارة رسالة صريحة برفض مصر لأى وجود عسكرى تركى دائم فى ليبيا، فى إشارة إلى ما تردد بشأن سعى أنقرة لاتخاذ قاعدة «الوطية» جنوب غرب طرابلس قاعدة عسكرية لها، وتمسك مصر بترحيل المرتزقة الأجانب، وتفكيك الميليشيات، وحظر تأسيس كيانات موازية للجيش.
استراتيجية مصر تجاه ليبيا لم تشهد تحولًا بزيارة وفدها إلى طرابلس، لأنها ظلت حريصة على تطوير العلاقات مع الأطراف الليبية المختلفة، وهو ما بدا فى تواصلها مع فرقاء الأزمة، على اختلاف توجهاتهم وانتماءاتهم.. فتحى باشاغا، وزير الداخلية، زار مصر فى نوفمبر لبحث موضوع استئناف العلاقات بين القاهرة وطرابلس.. مصر استقبلت وفدًا ليبيًا من المنطقة الغربية فى ١٠ سبتمبر، يضم أعضاء من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة وشخصيات عامة من مصراتة.. كما استقبلت ٧٥ شخصية من شيوخ وأعيان ونخب الجنوب الليبى فى ديسمبر، ووعدتهم بفتح قنصلية فى سبها جنوب غرب ليبيا، كمؤشر على تنشيط العلاقات مع الغرب والجنوب الليبيين.. مصر أضحت القوة الوحيدة التى تربطها علاقات طيبة بكل القوى على الساحة الليبية، وبالتالى فهى الأقدر على التحرك بفعالية نحو تسوية الأزمة.
القاهرة حرصت على استقبال المشير خليفة حفتر لاستعراض محاور تحركها السياسى تجاه مختلف الأقاليم الليبية، سعيًا لتجاوز العراقيل التى تحول دون تحقيق اختراق فى جهود التسوية، أعقبتها زيارة الوزير عباس كامل، رئيس المخابرات العامة، إلى بنغازى للقاء رئيس البرلمان عقيلة صالح والمشير حفتر، قبل أسبوع من زيارة الوفد المصرى لطرابلس، وذلك لتجنب عدم تفسير الإعلام المضاد توجه مصر نحو الغرب الليبى، باعتباره تخليًا عن الشرق، أو تراجعًا عن دعمه، بل العكس هو الهدف، بتوسيع نطاق التواصل السياسى على نحو يسهم فى تذليل العقبات التى تواجه العملية السياسية.

تركيا على النقيض لا تزال متمسكة بالتصعيد، ودفع الأوضاع فى ليبيا نحو المواجهة، البرلمان التركى صدق على تمديد نشر العسكريين الأتراك فى ليبيا لمدة ١٨ شهرًا، ووزير الدفاع خلوصى أكار، استبق زيارة الوفد المصرى لطرابلس بعدة ساعات، بزيارة على رأس وفد عسكرى كبير ضمّ رئيس الأركان العامة، وقائدى القوات البرية والبحرية.. حفتر بمناسبة الذكرى الـ٦٩ لاستقلال ليبيا، دعا قواته إلى حمل السلاح مجددًا لـ«طرد المحتل التركى»، مؤكدًا أنه لا سلام فى ظل استمرار المستعمر على الأرض الليبية، وزير الدفاع التركى رد بـ«أن حفتر وداعميه سيكونون هدفًا مشروعًا إذا ما حاولوا الاعتداء على القوات التركية»، لكن الجيش الوطنى توعَّد: «سنردّ على تركيا بشكل مناسب وغير متوقع».. أكار بحث مع وزير دفاع السراج وخالد المشرى، رئيس المجلس الأعلى للدولة، الاستعدادات العسكرية لمواجهة الجيش الوطنى، وكشفت المصادر عن تعزيز تركيا شبكات الدفاع الجوى بالمنطقة الغربية من ليبيا، وتزويدها بمنظومتى رادار.. تركيا قرعت طبول الحرب.
والحقيقة أن هناك تعارضًا واضحًا فى الأهداف بين مصر وتركيا على الساحة الليبية، القاهرة رعت مسار المباحثات العسكرية «٥+٥» التى تنظمها الأمم المتحدة، واستقبلت أهم اجتماعاتها بمدينة الغردقة نهاية سبتمبر ٢٠٢٠، لبحث إعادة بناء جيش وشرطة موحدين، لمنع تركيا من الانفراد بالوجود فى الغرب الليبى، وتعميق الاستقطاب بين الشرق والغرب، ما يهدد بمواجهات جديدة، كما شجعت على تنفيذ النقطتين المتعلقتين بفتح المطارات الليبية، والسماح بتبادل الأسرى، من مخرجات «٥+٥».. لكن تركيا تحرِّض على عرقلة تنفيذ النقاط المتعلقة بإنهاء وجود أى قوات أجنبية وإخراج المرتزقة وتفكيك الميليشيات وجمع سلاحها.. القاهرة تدرك أن طرابلس رهينة لدى القوات التركية، لا فرق بينها وبين شمال سوريا والعراق، وهى تدرك أن قيادات، مثل أحمد معيتيق ومحمد الحداد، رئيس الأركان الليبى، على قناعة بتفكيك الميليشيات وجمع سلاحها، وإنهاء تواجد الأتراك، وتراهن على وطنيتهما ووطنية باقى القيادات الليبية، وغيرتهم على بلادهم.
ولكن، هل يمكن الرهان على احتمالات التوصل إلى توافق مع تركيا على تسوية سياسية تتخلى بمقتضاها عن طموحاتها الاستعمارية فى الغرب الليبى؟!.. الإجابة أن هناك تحسنًا طفيفًا فى مناخ العلاقات بين مصر وتركيا، على الأقل فيما يتعلق بحسن تقديرها لقوة مصر، ومصالح أمنها القومى فى ليبيا، ويكفى أنه منذ أن أعلنت القاهرة «سرت- الجفرة» خطًا أحمر لم تحاول تركيا الاقتراب منه.. ولكنها تبذل محاولات لبناء جسور تواصل مع أجهزة الدولة السيادية فى مصر، أما تصريحات مسئوليها فقد تغيرت جذريًا؛ حديث ياسين أقطاى، مستشار أردوغان والمتحدث باسم حزب العدالة والتنمية، فى يوليو ٢٠٢٠ عن «تخلف مصر خمسين عامًا على أقل تقدير» بسبب ما وصفه بانقلاب الجيش، تحول فى مقابلة أجراها يوم ١٢ سبتمبر إلى أن «الجيش المصرى جيش عظيم، ونحن نحترمه كثيرًا، لأنه جيش أشقائنا»!.. لكن ذلك لا يكفى أن يكون مدعاة للتفاؤل.
مصر لا تريد مزيدًا من الحروب فى ليبيا، لأن أى حرب جديدة قد تهدد بمواجهة مباشرة بين القاهرة وأنقرة، تربك الحسابات فى المنطقة، وتزيدها اشتعالًا، لذلك اختارت ملء الفراغ السياسى العربى فى الغرب الليبى الذى نفذت من خلاله تركيا، وذلك على نحو يحقق التوازن الضرورى لإعادة الأمور إلى نصابها، ويقطع الطريق على المشروع التركى، وهى تتفهم أن مصالحها قد تتناقض مع المصالح التركية؛ مطلب غرب ليبيا بإعادة تفعيل اتفاقية ١٩٩٠ التى تحث على الحريات الأربع: التنقل والتملك والإقامة والعمل، قد تحقق مصلحة مصر، لأنها سبق أن فتحت أبواب ليبيا لقرابة ٢ مليون عامل، كما حققت مصالح الليبيين فى التملك والاستقرار بمصر حتى الآن، وهو ما يتناقض بالطبع مع مصالح تركيا التى تسعى لاستئناف عمل شركاتها، والهيمنة على مشاريع إعادة الإعمار.. هذا التناقض فى طبيعته يمكن استيعابه والتكيف معه فى ظروف السلم، الذى تسعى مصر لتوفير مقوماته.
لكن محاولة تركيا إنشاء قواعد عسكرية دائمة، وتبنى ميليشيات ومرتزقة لا يمكن التساهل بشأنهما، خاصة أنهما يقترنان بمحاولة إثارة مناخ من عدم الاستقرار فى منطقة شرق المتوسط، فضلًا عن تدخلاتها فى سوريا والعراق والخليج واليمن.. وللأسف، لن تتخلى تركيا عن وجودها العسكرى، حتى لو طالبتها بذلك حكومة طرابلس، أو الحكومة المزمع تشكيلها فى سرت.. تركيا لن ترحل إلا عندما تصبح تكلفة وجودها أكبر من أن يتحمله نظام حكم أردوغان، ما يعنى أنه ما زالت للعنف بقية، رغم كل الجهود السياسية.

باشاغا وصف اجتماعه مع الوفد المصرى بأنه «ضمن السياسات الأمنية لوزارة الداخلية التى تهدف إلى توطيد علاقات التعاون مع الدول الشقيقة والصديقة وأهمية العمل المشترك بين القاهرة وطرابلس». هذا التوجه يعكس حرصًا على توظيف الزيارة لدعم موقفه فى مواجهة السراج، الذى لم يخرج لاستقبال الوفد المصرى ولا وزير الدفاع التركى.. قضايا السياسة الخارجية والتعاون الدولى مسئولية الرئاسة والخارجية لا الداخلية، وقوة باشاغا تعمق الشقاق بين أجنحة الحكم فى العاصمة الليبية. فهو المسيطر فعليًا على الأوضاع الأمنية فى طرابلس، حيث تتبعه ميليشيات منظمة قوية لديها تسليح جيد.. انفتاحه على القاهرة وباريس، ودعم عدد كبير من القيادات له، أهمها أحمد معيتيق، نائب رئيس المجلس الرئاسى، وعماد الطرابلسى، رئيس المخابرات، يهدد النفوذ التركى، الذى أصبح يراهن على صلاح الدين النمروش، وزير الدفاع، ويحاول فرض أمر واقع تركى من خلال سرعة تشييد قواعد عسكرية قوية تؤمنها شبكة دفاع جوى.. ألم نقل إنه ما زالت للعنف بقية.