رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مشروع الكاظمى.. والسير على أشواك التهديد والتوازنات


لم تكن الصواريخ التى انطلقت الأسبوع الماضى، باتجاه المنطقة الخضراء فى بغداد هى الأخطر لهذا الفعل المتكرر، لكن توابعه قد تفوق حجم الخسائر التى لم تتجاوز هذه المرة أضرارًا مادية محدودة، أصابت عددًا من البنايات السكنية فى «عمارات القادسية» وبعضًا من السيارات المدنية دون خسائر بشرية. خلية الإعلام الأمنى التابعة للجيش العراقى حددت منطقة إطلاق الصواريخ بأنها جاءت من معسكر الرشيد، وأن مجموعة «خارجة عن القانون» تستهدف بهذا العمل أمن المواطن، وتسعى إلى الانتقاص من هيبة الدولة وزعزعة الاستقرار. فى الوقت الذى قام فيه الرئيس ترامب بالتعليق على العملية، من خلال الكتابة على «تويتر» واتهام إيران مباشرة بالوقوف وراء عملية الإطلاق، والتى حدد هدفها بـ«سفارتنا فى بغداد»، بل ونشر أيضًا صورة مرافقة لصواريخ ثلاثة ذكر بأنها لم تنطلق!
الصواريخ التى ظهرت فى الصورة المنشورة على حساب الرئيس الأمريكى، تعد من طراز «107 MM» إيرانية الصنع ويبلغ مداها نحو «١٠ كم». وهى ربما الصواريخ ذاتها التى جاء ذكرها فى الوثيقة الأمنية العراقية، التى جرى نشرها على نطاق واسع فى وسائل الإعلام الأمريكية باعتبارها تحمل «تهديدًا محتملًا»، من ميليشيات موالية لإيران باستهداف «قاعدة أمريكية» بالقرب من مطار بغداد، بالتزامن مع الذكرى الأولى لمقتل القائد الإيرانى قاسم سليمانى والقيادى بالحشد الشعبى أبومهدى المهندس. الوثيقة العراقية بينت أن توقيت الهجوم ربما يكون قبل يوم الثالث من الشهر المقبل، وهو نفس تاريخ الضربة الأمريكية بحق القياديين المذكورين، ويرجح- حسب الوثيقة ذاتها- أن الهجوم قد يكون من منطقة «الشيحة» التابعة لقضاء أبوغريب المحاذى لمطار بغداد الدولى. جدية ما جاء من معلومات بالوثيقة الأمنية؛ استتبع اجتماع رفيع المستوى بواشنطن عقده كبار مسئولى الأمن القومى بالبيت الأبيض، تناول مجموعة الخيارات المقترحة لتأمين العسكريين والدبلوماسيين الأمريكيين ببغداد، فضلًا عن كيفية ردع مثل هذا الهجوم الذى بدا فى اجتماعهم وشيكًا. للحد الذى طرحت فيه مرة أخرى مسألة سرعة إغلاق السفارة الأمريكية، بل وحدد فيه نقل السفير «ماثيو تولر» وأعضاء البعثة الدبلوماسية ما بين مكانين، إما إلى مدينة أربيل فى إقليم كردستان أو إلى «قاعدة الأسد» الجوية فى غرب العراق.
من داخل العراق؛ تبدو الصورة وكأن الولايات المتحدة ليست وحدها المهددة، بالفعل الإيرانى المستخدم لذراع ميليشيات «الحشد الشعبى» وغيره، فهناك رئيس الوزراء مصطفى الكاظمى الذى يخوض معركة استرداد مقومات الدولة العراقية، وخلالها تصادم مع أشكال الهيمنة الإيرانية مرات عديدة، للحد الذى صار يمثل «حالة» تهدد تلك الهيمنة فى صميم سياساتها بالمنطقة. وليس خافيًا مساحات التململ التى باتت علنية من قِبل الفصائل المسلحة تجاه الرجل، حيث جاهرته بالقول «لا تختبر صبرنا» بأكثر من ذلك، فيما تحاول استخدام جميع أوراقها ومهاراتها فى المناورة على مساحات الأرض التى صار الكاظمى يكسبها مؤخرًا. على تلك الخلفية جاءت زيارة «إسماعيل قاآنى» غير المعلنة إلى بغداد فى هذا الأسبوع، حيث حرص القائد الجديد لـ«فيلق القدس» وخليفة سليمانى على سرعة الاجتماع مع قادة أربعة ميليشيات عراقية، تمثل المكون الأكبر للأذرع الإيرانية والتى تواجه مرحلة بالغة الصعوبة، حسب تقدير طهران. القادة الأربعة الذين اجتمعوا مع إسماعيل قاآنى؛ هم كل من «قيس الخزعلى» زعيم «عصائب أهل الحق»، و«شبل الزيدى» أمين عام «كتائب الإمام على»، و«أكرم الكعبى» القائد العام لـ«ميليشيا النجباء»، و«أحمد الحميداوى» قائد كتائب «حزب الله العراقى». وحرص خليفة سليمانى على أن ينقل لهؤلاء أهمية الاستعداد لشن هجمات على المصالح الأمريكية فى العراق، فى حال تم استهداف إيران من قِبل الولايات المتحدة، والتأكيد على أن طهران تعتبر هذه الكيانات جزءًا حيويًا من رسم ملامح المشروع السياسى الإيرانى فى العراق.
المطلعون على تفاصيل هذا الاجتماع المهم من العراق، أكدوا أن هناك مساحة كبيرة منه حملت توصيات إيرانية بالتهدئة التكتيكية، وأيضًا ترميمًا لبعض الإشكاليات البينية فى صفوف الفصائل الرئيسية التى تمثل القوة الرئيسية لـ«الحشد الشعبى»، حملها القائد الإيرانى لضمان تخفيف حدة التوتر مع الجانب الأمريكى على الأقل لحين وصول الإدارة الجديدة، وألا تتسبب الحالة المنفلتة للفصائل فى الإسراع بالصدام الذى يعلن الرئيس ترامب أنه مستعد له للحظة الأخيرة لإدارته. وربما جاء تسريب هذا الجانب من اجتماع «إسماعيل قاآنى» مع قادة الفصائل، الخاص بضبط استهداف البعثات الدبلوماسية فى المنطقة الخضراء ببغداد بعد العملية الأخيرة، باعتباره يحمل لواشنطن وبغداد رسالة مزدوجة تحرص طهران على إنفاذها فى الوقت الراهن، مفادها أن إيقاع معادلة الأمن العراقى ما زال بيدها، فى الوقت الذى تؤكد فيه نيتها بضبط الميليشيات والذهاب نحو التهدئة. وهو ما سار على ذات نهجه؛ بعد أيام من الاجتماع السيد «خطيب زادة»، المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، حين قال من طهران إن بلاده تعد الهجوم على البعثات الدبلوماسية أمرًا مرفوضًا. فالأصوات العاقلة داخل إيران تحرص هذه الأيام على الدعوة إلى تفويت الفرصة على إدارة الرئيس ترامب، من توجيه أى عمل عدائى مباشر ضد إيران، فى حال تسبب انفلات الفصائل العراقية فى عمل يستلزم ردًا أمريكيًا، يعد الآن على درجة من الجاهزية أكثر من أى وقت مضى.
رئيس الوزراء الكاظمى؛ لم ولن يخرج من دائرة تهديد فصائل الحشد، رغم جميع دعوات التهدئة، فالأخيرة وفى ظل أجواء المزايدات بينها تضع تهمة اشتراكه فى عملية اغتيال سليمانى والمهندس، وكأنها حقيقة مطلقة باعتبار شغله منصب رئيس الاستخبارات العراقية حينها. لكن حقيقة الأمر هى تقف بالمرصاد لمشروع الرجل الذى يصر على تحويل العراق إلى دولة ذات سيادة وطنية، ويسير على أشواك تناقضات الحالة العراقية بدأب وببراعة التعاطى مع الواقع الذى لا ينكره، لكنه يملك رؤية متدرجة ومتزنة لإعادة تشكيله، مستخدمًا فى ذلك معطيات الداخل المرهق من أوضاعه الاستثنائية، ودعم الخارج الإقليمى العربى الذى يتماثل معه فى أهمية عودة العراق القوى، الوازن لكثير من معادلات الأمن القومى العربى.