رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استعدادات مصر لمواجهة مخاطر «سد النهضة»




المقالات الثلاثة الأولى من سلسلة «مصر وتهديدات دول الأطراف» تعلقت بتركيا.. رحلة الأتراك من الإستبس للأناضول، وأطماعهم الإقليمية.. عقدتهم التاريخية من الجيش المصرى.. ومعارك تأديب الجيش المصرى للجيش التركى.. المقال الرابع انتقل إلى التهديدات الإثيوبية لأمن مصر القومى، وانصب المقال الخامس على كيفية إدارة مصر أزمة السد؟.. أما السادس فتعلق بتمحور مظاهر العداء حول «سد النهضة».. ولكن كيف استعدت مصر لمواجهة السد؟.
خلال المراحل الأولى من مفاوضات سد النهضة، تم تشكيل اللجنة الثلاثية الدولية لمراجعة دراسات السد وتعديل مواصفاته فى مايو ٢٠١٢، لكن إثيوبيا لم تقدم لها سوى دراسات تمهيدية، غير متكاملة، لم تتعرض للآثار السلبية على دولتى المصب، ولا تأثيرات انهياره، وخلت بالطبع من إشارة إلى ضمانات أمان السد الركامى، الذى رفع الطاقة التخزينية للسد إلى ٧٤ مليار متر مكعب، خاصة أن عمليات التوسيع الضخمة لسعة السد لم تصاحبها أى مراجعة للأساسات!.. مصر أدركت أن ملف «سلامة السد» المسكوت عنه من قبل إثيوبيا ينطوى على معلومات خطيرة، لأن الدوافع السياسية والمصالح الدولية تغلبت على الاعتبارات الفنية فى تشييده، فالسد تم بناؤه على صخور بركانية ضعيفة، قُرب الأخدود الإفريقى العظيم، مساحة بحيرة التخزين ٢٣٧٥ كم٢، معدل الأمان ١٫٨ ريختر، مقارنة بـ٨ للسد العالى، ما يُنذر بأنشطة زلزالية، ناهيك عن أخطاء التصميم.. خبير الإنشاءات الألمانى بتقرير اللجنة الثلاثية الدولية أكد أن الرسومات الإنشائية معيبة وناقصة، ولا ترقى إلى بناء عمارة سكنية فى «هامبورج».. والخبراء الأمريكان رجّحوا انهياره خلال ١٠ سنوات لتدنى معامل الأمان.. السد قنبلة زمنية، توقيتها يبقى مجهولًا.
إثيوبيا تمسكت رغم كل ذلك بإنشاء لجنة وطنية لتنفيذ توصيات اللجنة الدولية، فتحفظت مصر، وتوقفت المفاوضات، حتى التقى «السيسى» و«ديسالين» بمالابو فى يونيو ٢٠١٤، واتفقا على استئنافها، لكن إثيوبيا تمسكت بعدم تنفيذ توصيات اللجنة الدولية بإجراء دراسات إنشائية تتعلق بالتصميم والارتفاع والسعة التخزينية والأمان، ورفضت وقف أعمال البناء.. نهاية العام تحركت التربة تحت جسم السد!، ما اضطر الشركة الإيطالية المنفذة إلى حقنها، ربما تأجيلًا للكارثة!.. مصر تتابع، وتقيّم وتقدِّر وتتحسب للطوارئ باتخاذ إجراءات متعددة، أبرزها تطوير مفيض توشكى، وبناء قناطر أسيوط وسحارات سرابيوم وأنفاق قناة السويس للمياه وترعة السلام، كلها آليات تستهدف تأمين مصر من فيضان مدمر يكتسح ضفتى النهر حال انهيار السد، وانطلاق ٧٤ مليار متر مكعب من المياه بضغط بالغ القوة، ليكتسح كل ما هو كائن على ضفتى النهر بامتداد مجراه.
مصر طورت مفيض توشكى، وهو منخفض طبيعى يقع غرب بحيرة ناصر، بالقرب من مدينة أبوسمبل السياحية جنوب محافظة أسوان، تمت توسعة المفيض فى الثمانينيات، وهو يرتبط بالبحيرة عبر قناة تمر بخور توشكى، أقصى تصرف لها ٢٥٠ مليون متر مكعب فى اليوم، وتتصل قناة توشكى بقناة خلفية عن طريق ستة أنفاق رئيسية، أقصى تصرف تصميمى لها ٩٥٠ مليون متر مكعب فى اليوم.. قناطر أسيوط الجديدة تعتبر أكبر مشروع مائى على نهر النيل بعد السد العالى، ومن المشروعات التى نفذتها الدولة لتنظيم إدارة المياه فى مجال الزراعة والرى فى ٥ محافظات بصعيد مصر.. سحارات سرابيوم الأربع تقع على عمق ٦٠ مترًا، ويبلغ طولها ٤٢٠ مترًا، تتولى نقل المياه عبر أنفاق أسفل قناة السويس من ترعة سيناء غرب قناة السويس إلى شرق القناة وسيناء بمعدل مليون و٢٥٠ ألف متر مكعب يوميًا.. هذه بعض الإجراءات الاحترازية التى تم اتخاذها تحسبًا لتعرض السد لخطر الانهيار، وهى تعتمد على توفير مجالات تصريف لكميات المياه الضخمة المحتمل تدفقها عبر مجرى النيل، لتتحول من قوة دمار وهدم إلى مصدر احتياطيات مائية تستخدم فى مجال التنمية وتحقيق الرخاء.
أما عن احتمالات تأثير «سد النهضة» على احتياجاتنا من المياه، فإن ٩٠٪ من هذه الاحتياجات مصدرها نهر النيل، ٨٠٪ منها يعتمد على النيل الأزرق، ومصر تعانى فى الأساس من عجز عن حد الأمان المائى قدره ٣٠ مليارًا، يرتفع إلى ٧٣ مليارًا عام ٢٠٥٠، كل مليار نقص يعنى تبوير «٢٠٠.٠٠٠» فدان، لو قامت إثيوبيا بملء السد خلال خمس سنوات، تنقص وارداتنا بمقدار ١٢ مليارًا فى العام، مما يعنى تبوير ٢.٤ مليون فدان، وانخفاض منسوب بحيرة ناصر يقلل إنتاج الكهرباء ما بين ٢٠ و٤٠٪.. بدء إثيوبيا عملية الملء فى يوليو ٢٠٢٠، لم يمثل أى ضغط مائى على مصر، حيث لم تزد الكمية المخزنة على ٥ مليارات متر مكعب، بسبب عدم استكمال بناء الجزء الأوسط، وقد عوضتها الأمطار الغزيرة التى هبطت على الهضبة الإثيوبية والسودان، ما رفع مخزون البحيرة خلف السد العالى إلى أقصى قدراتها.
مصر تتحرك على نحو إيجابى لتعويض أى نقص يحدث فى احتياجاتها من المياه، وتوصلت إلى موافقة عدد من الرؤساء الأفارقة على مشروع توسيع وتعميق منابع النيل الأبيض، بعد خروجه من منطقة البحيرات العظمى بطول ١٣٠كم بمناطق كيوجا بأوغندا ونيمولى بجنوب السودان، ومنطقة التقاء النيل مع نهر عطبرة شمال الخرطوم، وأعمال تكريك وحفر على الناشف ببحيرة فيكتوريا فى أوغندا وتنزانيا وكينيا.. المشروع يرفع حصة النيل الأبيض كمصدر لمياه النيل إلى ٤٥٪، بزيادة تفوق ٣٠٪ عن معدلاته، مما يعادل بعض أضرار «سد النهضة».. ١٦٪ من حصتنا فى مياه النيل تمر عبر أراضى جنوب السودان، التى طالبت بحقوقها فيه، لكن أوضاعها قد لا تسمح بالمتابعة والضغط.. مشاركتنا فى استعادة استقرار تلك الدولة الوليدة وتنميتها تسمح بالتنسيق فى إقامة مشروعات أعالى النيل، لاستغلال فواقد المياه، خاصة قناة جونجلى، مما يعوّض البعض الآخر من النقص، ويحقق لها فوائد كبيرة، زيارة الرئيس جوبا تمت ضمن ذلك الإطار الاستراتيجى.

لا يمكن أن نختتم هذا المقال دون أن نعرض الدور الأمريكى فى الوساطة لحل أزمة السد، وبعض التصريحات المثيرة للجدل، المتعلقة به، والصادرة عن الرئيس السابق ترامب.. فبعد وصول أبى أحمد إلى الحكم فى أبريل ٢٠١٨، تباهى بأنه «فى الوقت الذى قللت فيه واشنطن دعمها لكل الدول الإفريقية، عززت مساعداتها لإثيوبيا»، حتى وصلت إلى ١٫٧ مليار دولار من البنك الدولى ٢٠١٨، فى الوقت الذى لم يتجاوز ما حصلت عليه مصر من مساعدات عسكرية ١٫٣ مليار دولار.. وخلال زيارة أبى أحمد واشنطن أغسطس ٢٠١٩، كُلِفَ بمهمة تسوية النزاعات الإقليمية فى القرن الإفريقى وشرقى القارة، وحصل على وعود بتوفير دعم دولى للإصلاح الاقتصادى، وتسهيلات تتعلق بمشروع «سد النهضة» وتنشيط التجارة، للحد من الاحتكار الصينى.
مع تصاعد أزمة «سد النهضة» وتهديدها بالمواجهة، تدخل البيت الأبيض، لأن مصر حليف استراتيجى لأمريكا بمنطقة الشرق الأوسط، وإثيوبيا تحتل موقعًا مهمًا ضمن ولاية القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا AFRICOM، ما فرض نزع فتيل الأزمة، لتجنب الصدام، وهو ما كان يعتبر إنجازًا مهمًا على صعيد السياسة الخارجية الأمريكية، كان يمكن أن يمثل دعمًا لحملة ترامب الانتخابية، إضافة لسلسلة عمليات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل.. البيت الأبيض كلف وزارة الخزانة بالوساطة، نظرًا لتأثيرها على منظمات التمويل الدولية.. وعقدت المفاوضات بين إثيوبيا ومصر والسودان بحضور البنك الدولى، وخلال جولة مفاوضات واشنطن ١٢- ١٣ فبراير، وافقت الدول الثلاث على تولى الولايات المتحدة والبنك الدولى بلورة الصيغة النهائية الملزمة للاتفاق الشامل حول قواعد الملء والتشغيل، على أن يتم توقيع الاتفاق النهائى بحلول نهاية فبراير.
بمجرد انتهاء عملية الصياغة، أرسلت الخزانة الأمريكية الاتفاق للدول الثلاث، مؤكدة موعد التوقيع بالأحرف الأولى خلال اجتماعات ٢٧- ٢٨ فبراير.. الخزانة وصفت الاتفاق بأنه تأسس على مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول، والتزم بمبدأ التعاون فى الملء الأول وإدارة السد، وعدم إحداث ضرر جسيم بدول المصب، كما يعالج جميع القضايا المعلقة، وهى القواعد الواردة فى المادة الخامسة من إعلان المبادئ الموقع فى الخرطوم ٢٣ مارس ٢٠١٥.. مصر وقعت الاتفاق، لكن إثيوبيا رفضت التوقيع فى اللحظة الأخيرة، رغم مشاركتها فى كل مراحل التفاوض، كما انتهكته ببدء عملية الملء بصورة فردية.. ترامب علق جزءًا من المساعدات المالية الأمريكية لإثيوبيا أوائل سبتمبر، وخلال اتصاله برئيس الوزراء السودانى، عبدالله حمدوك، أكتوبر ٢٠٢٠، حذر من أن مصر «كان ينبغى عليها إيقاف مشروع سد النهضة الإثيوبى من بدايته عام ٢٠١١، لكنها كانت تشهد اضطرابًا داخليًا»، وأضاف: «الوضع خطير جدًا، لأن مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة، وسينتهى بها الأمر إلى تفجير السد»، وقال مؤكدًا: «قُلتها وأقولها بصوت عالٍ وواضح: سيُفجرون هذا السد.. وعليهم أن يفعلوا شيئًا»!.
تصريحات ترامب فى الحقيقة صدرت ضمن حملته الانتخابية لتبرر فشل الوساطة الأمريكية، لكنها لا تعبر إطلاقًا عن موقف مصر، القادرة على عرض مواقفها والدفاع عن حدود أمنها القومى دون حاجة لمن يزج بأزماتها فى خضم الحملات الانتخابية، والمناورات السياسية.. مصر تتمسك بنهج سياسى قائم على الحلول السلمية وبناء الثقة، لا الصدام المسلح وتأجيج النزاعات.. لكن ذلك لا يعنى التنازل أو التفريط فى حق الدولة المصرية، وأمنها المائى.. تمسّك الرئيس السيسى فى خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام ٢٠١٩ بأنه «لن يتم تشغيل سد النهضة بفرض الأمر الواقع، لأن مياه النيل بالنسبة للمصريين مسألة حياة»، كان رسالة جادة بالغة الأهمية والدلالة.. لعل الجميع يدرك أبعادها.