رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى إثيوبيا.. أبعد من حرب أهلية



جذور الصراع الدائر الآن فى إثيوبيا، والتفاعلات العديدة التى جرت بعد رسوخ تلك الجذور، تجعل النظر إلى إعلان أديس أبابا استقرار حدة القتال ودخول قواتها «ميكيلى» عاصمة إقليم التجراى، محل تشكك على الأقل فى جانب اعتبار هذا الدخول يمثل كلمة النهاية لهذه الحرب التى اندلعت بين الحكومة الفيدرالية و«الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى».
فالإعلان فى حد ذاته صادر عن أديس أبابا وحدها، فى حين ضرب على الإقليم حالة عزلة شاملة عن العالم، منذ اندلاع القتال قبل نحو شهر، حيث قامت قوات الجيش الإثيوبى بقطع كل وسائل الاتصال الهاتفى والشبكى عنه، وامتد ذلك للكهرباء والخدمات الأساسية الأخرى. كما بدا أيضًا من الأحداث على الأرض أن قيادات الجبهة نفذت هناك ما يشبه الخروج التكتيكى، باتجاهها اللجوء إلى الجبال للاحتفاظ بالقيادات الميدانية التى لم تخسر منهم أحدًا حتى الآن، وفى نفس الوقت تجنب عاصمتهم وبنيتها عملية التدمير التى كانت تتهيأ لها قوات الجيش الإثيوبى.
الذى يرجح تلك المعطيات أن قادة الجبهة تركوا وراءهم بعض الدبابات وقطع المدفعية، فى الوقت الذى حرصوا أثناء الانسحاب نحو الجبال على نقل كل أسلحتهم الخفيفة والمتوسطة إلى هناك. وأيضًا ثمة رسالة عسكرية أخيرة نفذتها الجبهة قبيل خروجها من العاصمة بساعات، تمثلت فى إطلاقها دفعة من «٦ صواريخ» باتجاه العاصمة الإريترية أسمرة، لتكون ثانى دفعة إطلاق تصيب الجارة القريبة، بعد الأولى التى أصابت مطارها الرئيسى بعد أسبوع من اندلاع القتال.
هذه الرسالة الأخيرة قبل الخروج، تحمل فى جزء منها بعضًا من أسباب التراجع الذى قررته الجبهة، فهو يعكس قناعاتها التى تشكلت من أحداث الميدان، بأن هذه المرة لن تكون فى مواجهة الجيش الإثيوبى وحده، بل إن إريتريا كشفت عن توجهاتها منذ اللحظة الأولى بأنها ستكون حليفًا مؤكدًا لقوات وتوجهات رئيس الوزراء أبى أحمد، بالنظر للعديد من الإجراءات التى تكشف منها عن أن أسمرة ضالعة فى مخطط الهجوم عليها.
فقد سمحت الأخيرة لقوات الجيش الإثيوبى، بالقيام بعمليات التفاف على الإقليم بمحاذاة حدوده مع إريتريا بالتوغل لعشرات الكيلومترات غض الطرف عنه عمدًا، وكذلك قيام المستشفيات فى أسمرة باستقبال الجرحى من قوات أديس أبابا، دون جرحى الإقليم ونازحيه الذين وصلوا للمئات فى غضون أيام معدودة.
كلتا الدولتين نفت هذا الأمر فى تصريحات خجولة غير قاطعة، لكن المؤكد أن قادة «الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى» خرجوا بالفعل من العاصمة «ميكيلى»، هربًا من الوقوع فى «كماشة» توافق إثيوبى إريترى على تحطيم قدرات إقليم «تيجراى».
لهذا التوافق الذى يدرك الـ«تيجراى» بواعثه كثير من المؤشرات، لم تخطئها عيونهم المدربة على قراءة ما يدور بجانبى الحدود، حيث كانوا فى القلب من الصراعات المدمرة التى نشبت عامى ١٩٩٨ و٢٠٠٠، بعد أن انقضى شهر العسل بين الحليفين القديمين «الجبهة الشعبية لتحرير تيجراى» و«الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا»، قاد الأولى «ميليس زيناوى» والثانية كانت بقيادة «أسياس أفورقى»، ونجحا فى الإطاحة بنظام «منجستو هيلا مريم» ١٩٩١ بعد ١٧ عامًا كاملة من الصراع.
على إثر هذا النجاح منح أفورقى جائزته من الغنيمة بالإعلان عن استقلال إريتريا ١٩٩١ مع التعهد ببعض الالتزامات الرئيسية لنظام زيناوى والدولة الإثيوبية، لها علاقة بالأمن والدفاع وتأمين استخدام الموانئ الإريترية للدولة الحبيسة، فضلًا عن اتفاقات تفضيلية للتجارة وتوحيد العملة وغيرها.
على خلفية إثارة «أسياس أفورقى» إشكالية ترسيم الحدود بين البلدين، سرعان ما توافرت الذريعة للانقلاب على تلك الالتزامات، لينقلب كلا الرئيسين لحالة عداء تاريخى وصفها زيناوى طوال سنوات حكمه، بأن إريتريا وجهت لإثيوبيا «طعنة غادرة» فى الظهر، فى الوقت الذى كان ضباط الجيش الإثيوبى يصفون «همسًا» هذه الحروب المتتالية بين الجارتين، بأنها حرب زيناوى والتيجراى مع أفورقى وإريتريا.
هذه المرة ينظر إلى ما يقوم به رئيس الوزراء أبى أحمد منذ أربعة أعوام وأسماه نهجًا إصلاحيًا، كونه لا يعدو حزمة من السياسات العرقية ذات البعد «الثأرى» ضد قومية تيجراى، خاصة بعد أن قرر حل «تحالف الجبهة الديمقراطية لشعوب إثيوبيا» الذى كانت تسيطر عليه «جبهة التيجراى»، وأسس بدلًا عنها «حزب الازدهار» بغرض الانقلاب على الهوية الفيدرالية لإثيوبيا الدولة متعددة القوميات.
انتقل المشهد الإثيوبى بالطبع نقلة نوعية بعد توقيع اتفاقية السلام والصداقة مع إريتريا يوليو ٢٠١٨، حيث أسهم ذلك فى فوز أبى أحمد بجائزة نوبل للسلام، فى حين رفعت مجموعة من العقوبات الدولية التى فرضت على إريتريا منذ العام ٢٠٠٩.
لاحظ الكثيرون ومنهم التيجراى بالضرورة، أن ما تلا ذلك كان نسج صداقة غير رسمية وشخصية للغاية بين أبى أحمد وأسياس أفورقى، فى الوقت الذى لم تسهم الاتفاقية إلا بتقدم مؤسسى ضئيل فى العلاقات بين البلدين.
لاشك أن الرئيس الإريترى يحمل ضغينة كبيرة للتيجراى، وتعمقت خلال السنوات الأخيرة، عندما برزت الجبهة كمعرقل لتنفيذ اتفاق السلام وإحراز تقدم فى ترسيم الحدود، لذلك رفض نظام أفورقى انخراط القيادات التيجرانية فى المناقشات الحدودية الدولية، التى يشعرون بأنها تتم بشكل صارم بين الحكومة الفيدرالية التى تم تهميش جبهة تحرير تيجراى منها وإريتريا، فضلًا عن أيديولوجية أفورقى الراسخة التى تنظر إلى الفيدرالية باعتبرها «فوضى عرقية» تناهض مركزية السلطة. وهنا يتلاقى الصديقان مرة أخرى، فتحالف أبى أحمد وأفورقى لا يأتى من فراغ أيديولوجى، بل إن صميم ما يستشعره الداخل الإثيوبى أن إصلاحات أبى أحمد تبتعد عن الفيدرالية المتعددة الجنسيات الموعودة، وهو ما جعل القوميات الأخرى يسودها اضطراب كبير خشية مصالحها المهددة، فى تلاقى الزعيمين على هذا المخطط الذى قد يؤدى إلى ضرب استقرار منطقة القرن الإفريقى برمتها، حيث تعيش على بحيرة مضطربة من الإثنيات والعرقيات، التوافق بينهم على درجة عالية من الهشاشة.
وهناك من يرى أن «أسياس أفورقى» يخوض هذا الفصل من النزاعات بالانحياز الشكلى لنظام أديس أبابا، فى حين يضمر الكثير من أسباب صناعة التدمير الداخلى لهذه الدولة التى يحمل لها هو الآخر ثأرًا عميقًا، يجعل القادم أكثر خطورة وأبعد ضبابية من أمكانية الرؤية عما ستسفر عنه فصول أخرى قادمة لا محالة.