رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الديمقراطية.. كوميديا أمريكية



الأرقام التى أعلنتها وسائل الإعلام الأمريكية قالت إن ٩٠٪ من أصوات العاصمة الفيدرالية، واشنطن، ذهبت إلى المرشح الديمقراطى جو بايدن، ومع ذلك، تظاهر مئات الآلاف فى المدينة نفسها، احتجاجًا على نتيجة الانتخابات الرئاسية غير الرسمية، التى لم يعترف بها الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، إلى الآن، ومعه نصف الأمريكيين تقريبًا.
المتظاهرون الذين كانوا على مقربة من البيت الأبيض، مر عليهم موكب ترامب، فأطلقوا الصافرات والهتافات الصاخبة ولوحوا بأيديهم وهم يرفعون لافتات كتبوا عليها «ترامب ٢٠٢٠»، «أوقفوا السرقة»، «أربع سنوات أخرى»، بالإضافة إلى شعار «لنجعل أمريكا عُظمى مرة أخرى»، الذى خاض به ترامب انتخابات ٢٠١٦ و٢٠٢٠. وكان مؤسفًا، غريبًا أو مريبًا، أن تهاجم وسائل إعلام أمريكية، توصف بأنها عريقة ورصينة، هؤلاء المتظاهرين، وتزعم أن غالبيتهم من العنصريين والمؤمنين بنظرية المؤامرة!.
باسم مجهول، صدرت سنة ١٨٨٠ فى نيويورك رواية عنوانها «الديمقراطية: رواية أمريكية»، ولم تكشف دار النشر عن اسم مؤلفها، هنرى بروكس آدمز، إلا بعد وفاته سنة ١٩١٨. وعنها، عن تلك الرواية، قدمت دار الأوبرا الوطنية، فى واشنطن، أوبرا «الديمقراطية: كوميديا أمريكية»، كتبها سكوت ويلر ورومولوس لينى، وتبدأ أحداثها مع نهاية الحملة الانتخابية وانتخاب رئيس جديد للولايات المتحدة، وتكشف عن بعض جوانب الصفقات، التى تحدث فى الغرف المغلقة بين النخب السياسية ورجال الأعمال، كتلك التى يمكنك استنتاج حدوثها، خلال الأيام الماضية، من تحول مواقف العديد من وسائل الإعلام المؤيدة للجمهوريين، أو التى كانت كذلك.
كل وسائل الإعلام الأمريكية، تقريبًا، أبدت انحيازًا واضحًا، أو فجًا للمرشح الديمقراطى، بدءًا من تلاعبها باستطلاعات الرأى، مرورًا على الطريقة التى أعلنت بها فوزه، ووصفها له بـ«الرئيس المنتخب»، قبل إعلان النتائج رسميًا، ثم تشكيكها فى صحة أى اتهامات بحدوث مخالفات، أو تزوير، وليس انتهاءً بالهجوم على إميلى ميرفى، مسئولة إدارة الخدمات العامة، لمجرد أنها رفضت التوقيع على خطاب يسمح لفريقه ببدء العمل «رسميًا» والحصول على مساحات مكتبية، والوصول إلى المعلومات السرية.
قانون الانتقال الرئاسى، الذى صدر سنة ١٩٦٤ وتم تعديله عدة مرات، بهدف الحد من مخاطر التسييس، ربط عملية نقل البيانات والخبرات إلى المسئولين الجدد، بتصديق إدارة الخدمات العامة على نتيجة الانتخابات، وإلى أن يحدث ذلك، لن يستطيع فريق بايدن التعامل مع الوكالات الفيدرالية، التى تشمل جهاز الأمن القومى، ولن يتمكن من الحصول على رواتبه من أموال الصندوق الانتقالى. وعليه، قام مسئولون سابقون بتحذير ميرفى، من وجود خطر جسيم على الأمن القومى بسبب تأخرها فى الاعتراف بجو بايدن رئيسًا منتخبًا!.
هذا التحذير، جاء فى خطاب حمل توقيعات ١٥٠ مسئولًا سابقًا، تلقته إدارة الخدمات العامة، الخميس الماضى، يطالب بتمكين جو بايدن وكامالا هاريس من الوصول إلى المعلومات اللازمة لمعالجة قضايا الأمن القومى الملحة. والطريف، هو أن قائمة الموقعين تكاد تتطابق مع تلك التى حملها خطاب حذّر، قبل انتخابات ٢٠١٦، من انتخاب ترامب رئيسًا. والأسماء نفسها نشرتها حملة بايدن خلال سعيها لنيل ترشيح الحزب الديمقراطى!.
فى الثامن من ديسمبر، الذى يوصف بأنه «المرفأ الآمن»، Safe harbour، سيتم حسم النزاعات، حتى وإن استمر ترامب فى الاعتراض على النتائج، غير أن احتمال حدوث مفاجآت يظل قائمًا حتى يقوم الكونجرس، فى ٦ يناير، بالتصديق على أصوات المجمع الانتخابى، وإعلان اسم الرئيس، إذ إن أعضاء المجمع الانتخابى، Electoral College، لن يدلوا بأصواتهم إلا «فى أول يوم اثنين بعد ثانى يوم أربعاء فى ديسمبر»، أى يوم ١٤ من الشهر المقبل، ولا يوجد ما يجبر هؤلاء على الالتزام بنتائج التصويت الشعبى، وحدث أن أعطى ١٨٠ منهم، بين ١٧٩٦ و٢٠١٦، أصواتهم إلى غير المرشح الفائز فى ولاياتهم!.
لا قيمة، إذن، لصوت المواطن الأمريكى، ما لم يتوافق مع آراء، اختيارات، أو تفضيلات النخب المسيطرة على السلطة، الثروة، والنفوذ، ولعلك تعرف أن مقعد الرئيس الأمريكى، لم يجلس عليه، منذ سنة ١٨٥٧، إلا فيل أو حمار: الفيل، هو رمز الحزب الجمهورى، بينما اختار الديمقراطيون، بإرادتهم، الحمار رمزًا لهم. ولعل عدم قدرة حزب ثالث أو مرشح مستقل على دخول البيت الأبيض طوال أكثر من قرن ونصف، يكفى وزيادة لإثبات أن الديمقراطية الأمريكية للعرض فقط، ولا يمكن استخدامها، إلا وفق ضوابط تفرغها من مضمونها.
حين اخترعت أثينا الديمقراطية، كان سدس عدد سكانها من الرقيق، وبزعم الموازنة بين إرادة الجماهير وخطر ما يوصف بـ«استبداد الأغلبية»، وضع الآباء المؤسسون للولايات المتحدة، سنة ١٧٨٧، نظامًا انتخابيًا بالغ التعقيد والغرابة، ظل يتطور، أو يتدحدر، حتى نسف الصورة المثالية المبالغ فيها، التى تم الترويج لها دعائيًا، عن «القيم الديمقراطية» الأمريكية.