رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مجدُنا فى وثائقهم



أمامنا ثلاث سنوات، حتى تقرر السلطات الإسرائيلية رفع السرية عن الجزء الباقى، الأساسى والأهم، من وثائق حرب أكتوبر، وحال حدوث ذلك، وهو غالبًا لن يحدث، سيعرف العالم أن عملية «Nickel Grass»، المعروفة بالجسر الجوى الأمريكى، جعلت قواتنا المسلحة فى مواجهة مباشرة مع العدو الفعلى، بعد أن كادت تسحق الوكيل.
فى الأعوام الثلاثة الماضية، رفعت المخابرات الأمريكية السرية عن دفعات من وثائقها الخاصة بالحرب، وتضمنت الدفعة، التى تم رفع الحجب عنها فى أغسطس ٢٠١٩، وأودعت بأرشيف الأمن القومى الأمريكى، مكالمات جرت بين هنرى كيسنجر، وزير خارجية الولايات المتحدة، وقتها، وأناتولى دوبرينين، سفير الاتحاد السوفيتى لدى الأمم المتحدة، وأهم ما أظهرته تلك المكالمات فى رأينا، هو أن القوتين العظميين كانتا حريصتين على ألا ننتصر، إذ قال كيسنجر، بالنص: إن «أسوأ الكوابيس هو أن ينتصر طرف على آخر»، واتفق معه دوبرينين فى ذلك!
مع حذف بعض الكلمات، الأسطر والفقرات من الوثائق، رفعت السلطات الإسرائيلية السرية عن بعضها، بعد ٣٠ سنة، ثم بعد ٤٠ سنة، وأصرت على حجب بعضها الآخر، أو أهمها، لمدة خمسين سنة. وإلى الآن، يظل محضر اجتماع الساعة ٧.٣٠ صباح يوم ٩ أكتوبر ١٩٧٣ هو آخر محاضر اجتماعات قيادة إدارة الحرب، التى سمحت السلطات الإسرائيلية بنشرها.
فى ذلك الاجتماع، أعلنت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، عن تدخل جيش الولايات المتحدة، بعتاده وأطقمه البشرية، فى الحرب، وأن مقدمة الجسر الجوى الأمريكى فى طريقها إلى إسرائيل، وبارتياح شديد استقبل موشيه ديان، وزير الدفاع، هذا التطور، وقرر التراجع عن فكرة الانسحاب إلى خط الممرات، مكتفيًا بتجميد تحركات الفرق الثلاث، التى يقودها الجنرالات أرئيل شارون، أبراهام مندلر، وأبراهام أدان، انتظارًا لوصول المدد الأمريكى.
هذا هو اليوم الرابع للقتال، وفى تقرير قدمه وزير الدفاع الإسرائيلى عن الوضع فى الجبهة المصرية، أقر بصعوبة موقف القوات الإسرائيلية والخسائر التى لحقت بالفرق الثلاث، ووصف اقتراح شارون بأن يعبر القناة بدباباته فى القطاع الأوسط بأنه فكرة غير مؤثرة، ولن تُحدث تغييرًا فى الموقف. ورأت جولدا مائير أن هذا الاقتراح قد يؤدى إلى كارثة، لو وقعت دبابات شارون تحت سيطرة المصريين على الضفة الغربية من القناة.
استعرض ديان الأوضاع، التى لمسها بنفسه خلال زيارته للجبهة، ووصف مدى صعوبة اقتراب المدرعات الإسرائيلية من القناة، وأكد أن أسلوب انتشار القوات المصرية عند القناة يمكِّنه من تحويل أى محاولة للاقتراب إلى كارثة، موضحًا أن المصريين لديهم الكثير من قطع المدفعية والدبابات الحديثة المزودة بأجهزة رؤية ليلية، كما اعترف بدرجة الكفاءة العالية التى ظهر عليها سلاح المشاة المصرى وتسلحه بصواريخ مضادة للدبابات.
طبقًا لما قاله ديان، فإن الجنرال بيرن، قائد الفرقة المتمركزة فى القطاع الشمالى، حين حاول أن يقترب من القناة، فقد ١٦ دبابة فى غارتين، ولم يتمكن من الوصول إلى خط الحصون، ثم انتقل ديان لاقتراح شارون، محذرًا من خطورة ذلك فى الوقت الراهن، ما يعنى أنه قرر تأجيل فكرة عبور شارون «عملية الثغرة» لحين وصول الإمدادات الأمريكية.
تسأله جولدا مائير: من أين يريد شارون أن يعبر القناة؟ فيجيب بأنه اقترح منطقة قريبة من القنطرة، واستدرك: «لكن إذا سمحنا له بالعبور، فإن شارون نفسه لا يعتقد أن هذه العملية ستؤدى إلى تغيير فى الموقف، كما أن التقارير التى نتلقاها من قادة الفرق الثلاث: شارون، مندلر، وأدان، تقول إنهم غير قادرين على الاقتراب من خط المياه أو احتلاله، ولذلك من الأفضل أن ننتظر».
عبر الجسر الجوى الأمريكى، انتقلت أسلحة حديثة ومتطورة لم يتم استخدامها من قبل، غير ما تم شحنه بحرًا وبرًا، كما قامت طائرات استطلاع أمريكية باختراق المجال الجوى المصرى، والتقطت صورًا بالغة الدقة من مسافات بعيدة، ولم يكن بوسع الدفاعات الجوية المصرية «وقتها» التعامل معها. وهكذا، تمكن الإسرائيليون من اكتشاف الثغرات المتاحة ونقاط ضعف القوات المصرية، ووضعوا خطة الالتفاف لمحاصرة الجيش الثالث فى منطقة «الدفرسوار»، وبالتالى، كان طبيعيًا أن يتغير مسار الحرب لصالح الولايات المتحدة، التى تخطئ لو اعتقدت أنها تدخلت، لمساعدة إسرائيل، لأن معركة يونيو ١٩٦٧، من الأساس، كانت محاولة أمريكية، تبعتها محاولات أخرى، لإعادة صياغة الأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط.
الخلاصة، هى أن القوات الإسرائيلية ظلت تتجنب الاقتراب من القناة حتى تدخَّل الجيش الأمريكى، ولو عدت إلى مكالمات كيسنجر، ودوبرينين، ستجدهما يتفقان على حقيقة أن هذا التدخل، فشل فى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل ٦ أكتوبر، ولم يغير الواقع، الذى فرضه تفوق قواتنا المسلحة، على الأرض، منذ ٤٧ سنة، والذى ما زلنا نحصد نتائجه إلى الآن.