رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشام والقاهرة «٢-٣»



قضينا أول ليلة فى الشام، وفى الصباح كان هناك الكثير من العمل، ولمّا كنا فى الصيف ونهار الشام شديد الحرارة، عدت إلى عادتى القديمة «نوم القيلولة»، واستيقظت بعد المغرب، وكان لا بد من النزول بحثًا عن وجبة سريعة.
هل أحدثكم عن مطاعم الشام؟ المشكلة الكبرى فى مطاعم القاهرة أنك إما تجد ضالتك فى مطعم فاخر جدًا، أو مطعم متواضع، ليست هناك مطاعم لكل الطبقات، وخاصة الطبقة الوسطى. فى الشام تستطيع أن تجد بسهولة كل أنواع المطاعم، وجميعها تتميز بالجودة والنظافة، وربما يفسر ذلك سر نجاح المطاعم السورية فى مصر، بل فى العالم كله، بعد الأزمة السورية الحالية.
بعد العشاء لا بد من شرب القهوة، دخلت أحد المقاهى المتوسطة فى منطقة الصالحية، كانت الساعة نحو الثامنة والنصف، استلفت نظرى خروج الناس سريعًا من المقهى، وعدم مجىء الجرسون لى! ناديت عليه لأطلب منه القهوة، نظر لى باستغراب، وأشار إلى ساعته وقال: «سكرنا!!» أى أغلقنا المقهى، بعد ذلك أدركت أن مقاهى ومحال الشام تغلق فى الثامنة! كان ذلك على زمن حافظ الأسد، نوعًا من إحكام السيطرة على المجال العام. بالنسبة لقاهرى مثلى اعتاد على حياة القاهرة الصاخبة حتى ساعات الليل الأولى، كان الموقف غريبًا ومزعجًا. فى زياراتى التالية للشام، ومع مجىء بشار الأسد، والانفتاح الاقتصادى، وشبه الانفراجة السياسية، ستعرف مقاهى ومطاعم الشام السهر والحياة، وخاصة مقاهى الصالحية، وأندية ومطاعم باب توما، فالمتغيرات الاقتصادية والسياسية تنعكس بشدة على المجال العام.
أتذكر نقاشًا مع بعض الأصدقاء الشوام ونحن نتجول فى سوق الحميدية، وكعادة أى مصرى يتحدث فى الشارع بصوت عالٍ نسبيًا، تطرق الحوار إلى التطورات السياسية فى العالم العربى، وهنا ساد صمت رهيب من جانب الأصدقاء الشوام، بل دعونى أقول حالة من الخوف والرعب، وتلفت يمينًا ويسارًا، ليهمس فى أذنى أكبرهم سنًا: «انتبه أنت لست فى القاهرة، نحن فى الشام، إحنا عايزينك ترجع لنا تانى!» كان هذا فى زمن حافظ الأسد.
ومع وصول بشار الأسد سادت حالة من التفاؤل والأمل فى التغيير، رئيس شاب ذو وجه بشوش، عاش فترة من حياته فى أوروبا. من هنا عرف الشام انفراجة ملحوظة، ومزيدًا من الانفتاح الاقتصادى، وبعض الانفتاح السياسى. دبّت الحياة من جديد فى مقاهى الصالحية، وطاب السهر والنقاشات الحرة فى نادى العمال ونادى الصحفيين، وخرجت وثيقة ربيع دمشق من مقهى هافانا الشهير مطالبة بالمزيد من الإصلاحات السياسية وفتح المجال العام. وبدأ بشار الأسد تجربة جديدة وهى تعيين نواب الوزراء من خارج حزب البعث ومن خارج النخبة التقليدية، وقيل آنذاك إنها بداية للتغيير وانتقال هادئ للسلطة إلى جيل جديد، وبدا كما لو أن الشام قد دخل معركة «الإصلاح العربى»، التى كانت ضرورة مُلحة حتى لا يحدث الانفجار كما حدث فى عام ٢٠١١، لكن للأسف تم اختزال «الإصلاح» فى مؤتمرات تُعقد، ولجان تنفض، وبيانات بلا روح، ونجحت النخبة القديمة فى قلب الطاولة، وعاد الأمر إلى ما كان عليه، وفشل مشروع الإصلاح من داخل النظام.